استثمار الماًسي ليست ظاهرة جديدة في حياة الأفراد و الجماعات و ان كانت درجة الاستثمار لا تتوافق بالضرورة مع حجم المأساة و عمقها و دروسها الا ان الجميع يسعى بشكل أو بآخر ان يبني مستقبله على انقاض ما تم تدميره من نفوس و اموال…. و لعل انجح تجربة للماًسي الإنسانية هي تجربة الهولوكوست و التي يحاول الكثيرون استنساخها دون جدوى لأسباب تتعلق بعوامل خارجية لا يمكن توفرها بغض النظر عن عمق المأساة ذاتها…(هذا موضوع مختلف ربما نعود اليه في مقالة أخرى)…. لكن المهم هو ان جهات عراقية تحاول استثمار الماًسي الكثيرة التي مر و ما يزال العراقيون يمرون بها…. واحدة من هذه الماًسي القريبة هي ماًسي الفيليين التي يتم العمل على استثمارها عن طريق عقد اجتماعات و مؤتمرات هنا و هناك..
في هذا السياق و مع اقتراب الذكرى السنوية الثالثة و الثلاثين لهذه الواقعة التاريخية المهمة عقد اجتماع كبير في بغداد لمجموعات تحاول ان ترسم صورة تنظيمية جديدة للفيليين الذين كثرت تنظيماتهم في السنوات الأخيرة دون ان تسجل قضيتهم التاريخية أي تقدم باتجاه تحقيق أي مستوى من حقوق مئات الآلاف من العائلات التي سلبت أموالها و شردت من بيوتها و ارسل آبناؤها إلى المشانق دون أي سبب سياسي عدا كون الفيليين أقلية لا ظهر لها و لا سند في عالم تسوده قوانين الغاب..
اجتماع بغداد يذكرنا بمجموعة إشكاليات تجمل الوضع العراقي العام و تؤشر بوضوح وضع القضية الفيلية في جدول اهتمام الأحزاب و المنظمات السياسية بقضايا الانسان عموما و خاصة المجموعات المهمشة…
أولى هذه الإشكاليات هي ان الاهتمام بالقضية يظهر في لحظات تاريخية ترتبط بشكل مباشر بمصلحة هذه أو تلك من القوى السياسية… في سنة 2005 عقد اجتماع مماثل في أربيل و قد سبق هذا الاجتماع الانتخابات العامة في العراق بثلاثة أسابيع تقريبا… الاجتماع لم يتمخض عن شيء في صالح الفيليين … أما اجتماع بغداد فهو يسبق ايضا انتخابات المحافظات بحوالي ثلاثة أسابيع و ما تمخض عنه لحد لحظة كتابة هذه المقالة هو …. وفق ما كتبه بعض المشتركين.. انه تم تأسيس لجنة مركزية على شاكلة الأحزاب الماركسية التاريخية التي لم تساهم الا في اختزال الإنسانية و جعل الانسان مجرد أداة تعمل وفق إرادة الحزب و القائد …. و لا ندري ان كنا الان إزاء سلب ما بقي من حقوق و كرامة الفيليين لكي يعلو شاًن هذه أو تلك من القوى المتصارعة على الساحة العراقية..؟؟..
ثانيا…. مع احترامنا الشديد لكل القوى السياسية و حقها في الحشد السياسي و عقد التحالفات التي تضمن مصالحها…. لكن لابد ايضا ان نقر ان هذه الاجتماعات المرتبطة بمصالح القوى الأخرى تسلخ من الفيليين دورهم التاريخي المتمثل كجسر للثقافات و تجعل منهم اداة تزيد من حالة الاستقطاب الدموي في العراق… و الأخطر من هذا هو ان مشاركة الفيليين في حالة الاستقطاب تزيد من مساحة الكره و الأحقاد ضدهم و هذا يتناقض بشكل مباشر مع الأهداف المعلنة في ترسيخ وجودهم في العراق..
ثالثا…الاصطفاف بجانب هذه أو تلك من القوى السياسية المختلفة اثبت فشله تاريخيا …. نتذكر جميعا ان مساهمة الفيليين في تطور احزاب و حركات و تنظيمات مختلفة كانت أكبر من حجم الكثير من المجموعات الاجتماعية لكن تلك المساهمات الكبرى لم تسعف الفيليين لحظة تشريدهم و قتل أبنائهم… كما ان وجود الأفراد منهم في هذا الحزب أو تلك الحركة لم يتجاوز الدور التنفيذي و لم يصل أبدا إلى أي دور قيادي مؤثر يشكل نبراسا للمجتمع الفيلي.. فهل هناك من يعتقد ان القادمات من الأيام و التحالفات الجديدة قد تحمل شيئا مختلفا..؟؟..
رابعا…. حتى لو أخذنا الحسابات السياسية التكتيكية بنظر الاعتبار فان التشظي السياسي داخل المجتمع الفيلي لا يضر فقط بالنتائج الانتخابية كما حصل في الانتخابات العامة الأخيرة و إنما ايضا سيترك أثرا سلبيا في أية محاولة جدية لبناء هوية ثقافية و سياسية للفيليين… بكلام آخر… إقامة التحالفات هي شيء ضروري في إدارة العملية السياسية و لكن ان تقيم تحالف على أساس برنامج مشترك هو شيء و ان تصبح جزءا من مشروع يقيمها و يقودها طرف آخر هو شيء مختلف تماماً…. للأسف لابد من الإقرار مرة أخرى ان كل التحالفات التي أقامها الفيلييون لم تمنحهم أي دور فعال و لم يجني منها المجتمع الفيلي شيئا ملموسا…
خامسا… يشترك اغلب القوى السياسية التي تتفاعل مع القضية الفيلية في أطروحة صحيحة و هي ان درجة التشظي بين الفيليين عالية جدا و هذا ما يشكل حجة دائمة الحضور لدى تلك القوى في عدم تحقيق أي شيء لصالح الفيليين…. المشكلة هي ان هذه التحالفات المختلفة ترسخ درجة التشظي و الانقسام خاصة أن المجموعات الفيلية تحول هذه التحالفات الى قواعد اخلاقية… اي ان التحالفات في اغلب الأحيان تتخذ الحدود اليقينية القطعية …. سواء دينية ام قومية …. أساسا و مرجعية انتمائية بدلا من اعتبارها آليات سياسية تهدف إلى تحقيق أهداف محددة كما تفعل القوى الأخرى…
الخلاصة الأولية هي ان من سخرية القدر انه بينما تعمل القوى الإثنية و القومية و الدينية و العشائرية و حتى العلمانية و الوطنية … الخ على بناء هويتها الخاصة فان واحدة من المجموعات البشرية القليلة التي ما تزال تعمل على أساس الهوية العراقية هي مجموعة الفيليين الذين طردوا من العراق لأنهم…. ليسوا عراقيين…. كما صنفهم النظام و صفق له الكثير ممن ساهم الفيلييون في رفع راياتهم… أملنا ان يبقى الفيلييون عراقيين روحا و عملا و ان لا تجرفهم المشاريع الخاصة فماًساتهم هي مأساة الانسان و ليست نتاجا للصراعات السياسية و السعي إلى السلطة…أكرم هواس (مفكر حر)؟