تدفع الثورة السورية اليوم ثمنا باهظا للإهمالات والأخطاء التي اقترفتها المعارضة طيلة عامين ونصف العام من الصراع مع نظام الظلم والطغيان الأسدي. وكما يحدث دوما، فإن تراكم الأخطاء يتحول بمرور الوقت إلى سبب رئيس في عدم التصدي لها، ووقوع المزيد منها، ونشوء حال تزيد باطراد العجز عن مواجهتها والتخلص منها.
واليوم، يجد «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السياسية» نفسه في موقف يقعده عن إصلاح أخطائه، رغم أنه محاط بكم كبير من الإهمالات والأخطاء، ومطالب في الوقت نفسه بمعالجتها، رغم أنه يتعرض لضغوط قاهرة يمارسها عليه الراغبون في إصلاح يمتن مواقعه، والساعون إلى الإجهاز عليه، على ما بين هؤلاء وأولئك من اختلاف في الغايات والمواقف. وبما أن معظم الراغبين في إصلاح الائتلاف ينتمون إليه، فإن مطلبهم التعجيزي يبدو وكأنه يربكه ويبلبل خياراته، ويخدم بصورة غير مباشرة الطرف الآخر: الساعي إلى التخلص منه، والذي شرع يصدر مؤخرا بيانات عنيفة تنكر شرعيته وتقوضها.
في هذا الوضع المفارق، يواجه الإصلاحيون حرجا حقيقيا، فما يطلبونه لن يتحقق دون معركة ضد قوى تمسك بمفاصل مهمة داخل الائتلاف، وهذه ليست ممكنة لأنها يرجح أن تنهكه وتخدم – عن غير قصد – خصومه، بينما يفتقر هو إلى ذلك القدر من القوة الذي يمكنه من تلبية مطلب الإصلاح، ويجد نفسه عاجزا عن الحفاظ على قواعده الشعبية وصد القوى المعادية له، التي تفيد بلا شك من أي إرباك يصيبه. هذا التعقيد، يجبر الإصلاحيين على التعايش مع نهج الائتلاف، الذي يعتبرونه مصدر ضعفه أمام خصومه، وابتعاد الشعب عنه، وغربته المتزايدة عن الثورة، وبروز خصومه وتعاظم سيطرتهم.
هذه المعضلة الثلاثية الأطراف، تحيد بفعل التناقض بين ما يجب القيام به وما يحدث على أرض الواقع، سياسات القوى المعادية للنهج المذهبي، أو تصيبها بالشلل، وتترك الساحة له، وتمثل اليوم معضلة رئيسة تهدد بتقويض الائتلاف، الذي يتعرض لضغوط عربية ودولية تطالبه بمواقف هو أضعف من أن يأخذها، لافتقاره إلى السيطرة على الساحتين السياسية والعسكرية، وتردده فيما يتعلق بأولوية الإصلاح كخيار استراتيجي، وتركيز جهوده على مسائل آنية من طبيعة سياسية أو إجرائية، يؤدي انخراطه فيها إلى امتناعه عن القيام بالإصلاح المطلوب، مما يخلق فجوة بين القوى الديمقراطية وبينه من جهة، ويعزز مواقع قوى وتيارات المذهبية من جهة أخرى، ويدخل اليأس إلى قلوب السوريات والسوريين. واليوم، يقف الائتلاف عند هذه النقطة المفصلية، ويجد نفسه عند مفترق طرق يتوقف عليه مصيره ومصير المسألة الوطنية والديمقراطية في سوريا، بما أنه يهمل ما كان على المعارضة وعليه إنجازه من خطط وإصلاحات إبان فترة ما بعد الثورة، ولأن إهماله يفضي اليوم إلى نتيجتين متكاملتين هما: تبلور بديل من خارج النسق الحر والديمقراطي، وتشكل قوى تتبنى هذا البديل وترعاه وتقاتل في سبيله بالسلاح، مثلما يحدث اليوم، في أعقاب الانزياح السياسي الذي وقع خلال عامين ونصف العام، مع ضغط النظام العنيف والوحشي على المجتمع، وتبلور وبروز خطاب مذهبي حملته جهات وتيارات لم تكن موجودة عند بدء الثورة، أدى تشكلها، التدريجي أول الأمر، ثم المتسارع فيما بعد، إلى وضع المعارضة والائتلاف أمام صعوبة مزدوجة جعلت الإصلاح ملحا ومتزايد الصعوبة في آن معا، وطبعت سياسات ومواقف المعارضة المدنية بطابعها، وحولتها عن رهانات الثورة الأولى.
تصارعت، خلال الأشهر الثلاثين المنصرمة، وجهتا نظر في المعارضة السورية: واحدة أعطت الأولوية للداخل ورأت الخارج بدلالته، وأخرى رأت الداخل بدلالة الخارج، كان من نتائج غلبتها مساعدة النظام على جعل سوريا ساحة صراعات يسفك فيها الدم السوري لا ناقة للسوريين فيها ولا جمل وليست في صالحهم.
أي قرار سيتخذه الائتلاف خلال الأيام القليلة القادمة: الإصلاح تمهيدا لجنيف وبالتلازم معه، فيكون ثمة بصيص أمل في نجاة، أم جنيف بلا إصلاح، فيكتمل السير نحو المجهول؟
منقول عن الشرق الاوسط