كان هناك راعيان إشتهرت بهما منطقة الحُضنة كلها ، واحد كان يرعى قرب بوسعادة والآخر بضواحي المسيلة المدينة ، إشتهرت بهما الحضنة كلها لأن الأول أصبح سياسيا ومثقفا مشهورا، بل وزيرا مقرباﹰ من رئيس الجمهورية ، أما الثاني فأصبح عبقرياﹰ من أشهر علماء الولايات المتحدة في مجال الإلكترونيات. ولعلّ الذي إمتطت نفسه راحلة الطموح والتفوق وصولاﹰ إلى القمة الشماء كان جزائرياﹰ من الطبقة الوسطى، ولم يعتمد على سواها ، فهو إتّكَل أول ما إتكل عليها وكان له ما كان ، رعيَ غنم وماعز أبيه في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات في أوقات العطل وفي غير أوقات العطل بتواضع ونال منه ومن منطقته شرفاﹰ وحسن مآب . وكان مآله نجومية وثروة في بلاد العم سام.
أما صاحبنا الراعي الأول فهو “راعي ونص” و راعي الحُضنة الأول ، كم ألفته سهولها رطبةﹰ و يابسةﹰ راعيا قلباﹰ وقالباﹰ برأسه الصغير كرأس ثعبان أرقط ، أو كحبة بطيخ وجسمه المتماوج وعصاه القصبية، وهو ابن عائلة غنية ركبت نفسه موجة الطمع والانتهازية وحب النفوذ والجاه التي اتسمت بها مرحلة الأزمة الاقتصادية بالجزائر مختلجة بهاجس مرضي للنجومية والرّياسة، مهما كلفه الثمن ومنذ الصّبا. ليس مدركا فقط من أن الرعي قلعة التدرب على مشروع “حمل الشيتة” ؛ لأن قيادة الرؤوس بالاستقواء عليها وإخضاعها هو ما هو بحاجة إليه وتلك هي البورصة الحقة لإستثمار”المال”. بل مدرك أيضا بأن الرعي كمهنة تتبع خصال الراعي وأخلاقه فإذا كان حميد الأخلاق خافضاﹰ لجناحه ناهيا نفسه من شراء ذمته عند سيده قيل حينئذ أن الرعي مهنة شرف ونبل وكرم ، وإذا كان العكس حُقّرت وحُقّر صاحبها الموصوف بالأنانية والكِبر والإسترزاق و النخاسة و دُعي “راعي” مع سبق الإصرار والترصد.
عاش صاحبنا عزيزا مفششاﹰ في بيت والده الكبير، وكان يحب الرعي في أوقات فراغه وغير أوقات فراغه هو الآخر لحاجة في نفسه. ولم يدرك العواقب السلبية لهذا السلوك إلا عندما إستقر به الحال بين ظهراني السكان الحضر لدراسة علوم الإدارة ، أي بعد فوات الأوان ، حين كانت الأنانية و الفنتازية و حب التملق و التمظهر قد ترعرعت و شبّت معه ثم رسبت في قاع نفسه ، ثم إنّ الرعي حرفة الشرف و الفروسية من شيم النظام القبلي في بادية الحُضنة و أولاد نايل تُورّث أباﹰ عن جد وتنتقل بالفطرة من جيل إلى جيل كما تنتقل الصفات الوراثية الجسمية من الأباء إلى الأبناء ، قد أورثته طبيعة مُجافية لأخلاق الحضر، وهي عدم مقاومة شرور النفس بخاصة ما تعلق بالأنانية والانتهازية لذا منذ تخرجه إختار التملق ومدح المدراء والساسة هوايةﹰ له ، عبر الصحافة العاصمية مستقلة كانت أو حكومية لنيل مآربه فمكّنته العديد منها ، من العمل محررا أو مراسلاﹰ ، وقد واكب عمله في الصحافة الوطنية المكتوبة موجة العنف الإرهابي الأعمى الذي إستغله أحسن إستغلال تحت نقاب كثيف وزائف اسمه “الوطنية” كي يقفز من رتبة “محرر متميز” بالإطراء! إلى رتبة المدير ، وينشر روياته وأشعاره الضّحلة بأموال الشعب ، ثم عندما جاءت التحولات السياسية نهاية التسعينيات ترشح مع مزيد من تملق النظام ورموزه و”المجتمع المدني” وقادة الجيش ورموزه ، وما إن دخل قبة البرلمان حتى زاد من تملُّقِه للرئيس المنتخب هذه المرة على حساب المترشحين الستة المنسحبين.
ثم هكذا دواليك ، من منصب رفيع إلى آخر أرفع ليس له حيلة سوى الانتهازية وحب الذات وبخبث لا يتوانى عن السجود لرئيس نصف مشلول ليل نهار، وضرب عادات الشعب وتقاليده في القبائل ضربا وذلك بإعاقتهم على إحياء تراثهم ، و تتويج الفاشلين منهم تحطيماﹰ وتكسيراﹰ للنابغين المبدعين منهم، وبإشارة من لدن البطانة أو شقيق الرئيس بل وتنصيب نفسه المائتة الضمير ناطقاﹰ باسم الديمقراطية وأي ديمقراطية؟ أنها تلك التي تتوج الفاشلين وتهمل الناجحين وبنفاق يزكم الأنوف، إنها ديمقراطية التسلط والوقاحة ، كما حصل عندما حمل باقة ورد ضخمة إلى المطار ليستقبل روائياﹰ فاشلاﹰ حصل على جائزة كاتارا لينال مزيد من الحظوة والتقدير عند من يقاسمون هذا الروائي الفاشل “مسقطية الرأس” ، ولم يفعل الشيء ذاته مع روائي شاب حصل على نفس الجائزة بعد عام ليثبت فساده وتثبت الكاتارا تواضع مستوى أدبهم الروائي . وعندما إستفسره سفير غربي وكان سفير الولايات المتحدة في الجزائر عن آجال التغيير ببلاده يخبره مفتخرا بصداقته للدبلوماسين :
-التغيير! التغيير يعني و صول الأصوليين للحكم .
فيجبه سعادة السفير: “والديمقراطيون أين هم إذن؟”
يرد عليه :”ـــــــ في الوقت الحاضر نحن هم الديمقراطيون ، وإذا أردت رؤية تيار ديمقراطي معارض قبل التيار الاسلامي ها هنا كما هو عندكم فعليك الانتظار مئة سنة أخرى.
فيصمت السفير لبرهة ثم يقول وهو يبتسم: ـــــــ صحيح!! رأيناكم تُعزلون من منصبكم عندما حاولتم في لقاء مع قناة مصرية إفضاء كمشة من الديمقراطية كانت استوطنت نفسكم ، أقصد رأيكم الخاص في أحداث العنف بعد الماتش؟
ويُكافَئ بقراءة خطابات الرئيس بمناسبة أو غير مناسبة مكرساﹰ دون وعي لنظام سياسي مرتزق عايش على ريوع النفط ومخلّفات أيديولوجية أكل عليها الدهر وشرب ، مجموعة النّصابين المحتالين إستولت على مقدرات الشعب وعزلت نفسها عنه حتى رمت مع ثلة بطانة شراء الذمم وإفشاء الفساد بالعنجهية والاستقواء الذكي بالجيش وتاريخ ثورة التحرير إلى الهاوية. وبالاحتماء بذريعة حفظ النظام الجمهوري، و تخليص الشعب من الفكر السلفي الهدام ، ثم حجج تحاشي إنزلاقات الربيع العربي الأمنية المزمنة بالقرب من الرئيس وزيراﹰ للثقافة ما فتأ مقيماﹰ حفلات الغناء والرقص ﻟ “ماجدة” و” ناجوى” بأموال الشعب الجانح ، ثم مازالوا يُلقون هو وأمثاله برئيس مقعد ” على نياتو” مريض وشقيقه المتخفي بجلبابه المتلاعب بإرادة الشعب إلى غضب الشعب ؛ إلى مصيرهم الحتمي و المستحق ، وكانت العبرة أمامهم قبل عشرية ماثلة بشخصية القذافي الدكتاتور المُجندل لكنهم لم يعتبروا بها. وكان قد حذّرهم رجل منهم غَرّر به الرجل القوي أنذاك المُمسك لوحده بعصا عظيمة الغلظة كأنه فريق من البشر، بها ينش على القطيع فتسير دواليبه ولا تزيغ عن الطريق أبدا… مسكين حَسِب أنه يناصره في إنتخابات الرئاسة بإشارة أو اثنين ولم يهتد أنه نصاب أناني يريد به منفعة خاصة ، كما حذّرهم رجل آخر منهم ، نحيف الهامة والرقبة ، أشيب اللّحية، أصلع الرأس ، من سوء المصير أيضا، دون جدوى.
وكان ما كان إثرها من ثورة منقطعة النظير، إحتجاجات سلمية تطورت إلى سيل جارف ؛ أعمال عنف وحرق وتصفيات وتذويب للشحم دفعت ثمنه بعض الرؤوس كاش في حينها بينما مات الرئيس دون أن يُمس تحت وقع الصدمة ، و صُفع شقيقه حتى الصّمم ورُكل مع من رُكل وأتُّهم في شرفه ثم عُرج به إلى الحبس وبصُق هناك مع من بصُق. وكلٌ قُتل مع من قُتل بإلتماس الآية التي مفادها ” كما نسيتمونا و أنفسكم كذلكم اليوم تنسون” بينما توجه السفاح فورا إلى الشيّاتان الكبيران السعدان وابن العباس ، بينما تمكن البعض الآخر كالبشيشي والشيات الصغير الزرهوني و روخو ندرومة وجارته والسّي شعيب والكعوان وكلهم مستشارون و وزراء من الفرار، قُبض على فرعونة متأهبة للفرار فهيُّأت جارية للثوار؛ بيد أنه تمكن شعيباﹰ من حمل ما إستطاع حمله وطار إلى أمريكا و زُريقا والسعدان حملاَ زوادة الفضة متجهين صوب تونس ، والجعبوب مع بلعياطﹰ شوهدا يجمعان بعض الدولارات من بنك البركة متجهين صوب الحدود المالية ، والبعض لم يتمكنوا من الفرار متذكرين عمولاتهم وشويهياتهم بمساقط رؤوسهم وكان منهم صاحبنا راعي الحُضنة الذي توارى إلى مسقط رأسه ليختبأ بين خرفان ونعاج الزريبة الخلفية لزرائب ” فيرمته ” ، وبينما هو مختبئاﹰ عن أعين الثوار سرح بذاكرته إلى الوراء ، وبدأ شيء من الندم يكلُم ضميره تكليماﹰ وكأنه سكين الألم والحسرة يقطعه تقطيعاﹰ ، فبين لحظة وأخرى كان فيها الموت أبعد ما يكون وإذا به أصبح أقرب ما يكون متذكرا مقولة الممثل عريوات الشهيرة « الأمور اللي خاطيَتني أنا واش الداني لِيها » متخيلاﹰ حبل المشنقة يلتف حول رقبته صنو رقبات : المحمودي وخالد التهامي ومحمود ذياب والحبيب العادلي ويوسف الماطري ، كل هؤلاء تسلقوا مراتب المجد انتصارا لأنفسهم متذرعين بعزة وكرامة الوطن فكانوا وصمة عار ليس في جبين أمتهم العربية وحسب ولكن في جبين الإنسانية كلها.
من يومها و صاحبنا هالكٌ مع من هلك رعباﹰ وجوعاﹰ لا محال إلاﹰ من تاب فخاف واعتبر، فحتى حبّات الشعير التي كان يستلها من بعر الزّريبة نفذت فلم يمهله القدر، بعد أن أُستل سيف العدالة فوق رقبته ، ليلقى المسكين حتفه في دهاليزها المظلمة الباردة جوعاﹰ وعطشاﹰ بعد إشتداد حصار الثوار ومراقبة الأهالي الثاقبة للحركة في الفيرمة المشبوهة بعد أن تسرب إليهم أنها تأوي أحد أخبث أزلام النظام المرتشي البائد ، الذي ينتظر مصيره مداﹰ وجزراﹰ على أيدي أحرار الجزائر الحرة .
زياد بوزيان ــــ الجزائر