د. موسى رحوم عباس
كثيراً ما فكرت لو أنَّ كاتباً فرنسياً ألف مسرحية أو رواية تؤرخ لعاصمة الأنوار «باريس»، وتجاهل برج إيفل ومتحف اللوفر والنوتردام ونهر السين والثورة الفرنسية وسجن الباستيل؛ لخرج الفرنسيون إلى ساحة الكونكورد مطالبين بسجنه، ولتجمهروا أمام قصر الإليزيه احتجاجاً على تشويه عاصمتهم، وأتمادى في الخيال لأتصور أديباً إنكليزياً يؤرخ «للندن» في مصنَّف فنيٍّ سينمائي، ولا تمر عدسته على ساعة بيج بن أو قصر بيكنجهام وقلعة ويندسور والبرلمان البريطاني، أو يتجاهل نهر التايمز والهايد بارك وجسور لندن الرائعة والبيكاديلي..، عندها ستخرج العائلات اللندنية صغارها وكبارها إلى (10 داوننغ ستريت)، وترشقه بالبيض الفاسد لتشويه تاريخ مدينتهم، كل هذه التخيلات تحضرني سنوياً، وأنا أتابع ذلك المنتج الفني الذي أصبح لعنة على دمشق عاصمة التاريخ التي لم يغب اسمها عن رقم حثية أو آشورية أو كلدانية أو آرامية وحتى في الآثار الفرعونية، وقد تحولت دمشق لـ»ضيعة» متخلفة سجنت بباب خشبي عتيق، وأطلق عليها لصوص التاريخ مسمى «باب الحارة» وجعلوا سادتها سائس خيل وحلاق، ولكل منهما بطانة من (اللمم) و(الحوش)، وخلقوا مجتمعاً تسوده عادات ما عرفها أهل دمشق، بل هي من بنات عقول متخلفة، لم تعرف دمشق، ولم تكلف نفسها عناء البحث في تاريخ هذه المدينة القديم والحديث، بل رسمت لها صورة لقرية هبط أهلها من جبالهم، متخلفون في كل شيء!
ولأول مرة أعرف ألا فضل لأهل دمشق سوى «اليبرق والمحشي»، ولا علم لهم سوى معارف أهل القرى النائية القصية عن كل حضارة وتطور!
من خلال العمل الذي تحول لسيرة بني هلال في أجزائه الثمانية، يضع لنفسه إطاراً تاريخياً خلال فترة الانتداب الفرنسي، وسأختار الفترة 1930 – 1940 للحديث الذي يدمي القلب حول دمشق، فماذا يقول التاريخ:
في العام 1930م دمشق تنتخب ابنها محمد علي العابد (1867- 1939م) رئيساً للجمهورية كأول رئيس بهذا المسمى انتخاباً حراً، وتسقط صبحي بركات مرشح الفرنسيين، وذلك 11 حزيران/ يونيو 1930م، وهو مواطن سوري من أرستقراطية دمشق يحمل شهادتي دكتوراه الأولى في الهندسة المدنية والثانية في القانون الدولي، ويتقن اللغات العربية والتركية والفارسية والفرنسية والإنكليزية، وتخرج في السوربون هذا هو أول رئيس للجمهورية، اختاره السوريون في انتخاب حر، وقد استقال 1936م لكبر سنه؛ وليفسح المجال لتداول السلطة للكتلة الوطنية وهاشم الأتاسي..
الصالونات الأدبية: عرفت دمشق عاصمة الحضارة الأموية ظاهرة الصالونات الأدبية منذ فترة مبكرة من القرن العشرين، فقد أسست الرابطة الأدبية 1922م، وقامت السيدتان مريانا مراش وماري عجمي بإحياء تقليد المجالس الأدبية، فقد ضم مجلسهما وجوه الأدب والفكر من دمشق والمحافظات وضيوف البلاد المرموقين، وكذلك فعلت السيدة زهراء العابد حرم الرئيس محمد علي العابد عندما أسست صالوناً أدبياً في منزلها بداية العام 1930م ، ولا أظنها شاركت في نميمة وتفاهات حريم «باب الحارة»، كما شهدت دمشق خلال هذه الفترة التاريخية حركة غير مسبوقة في نشاطات المجتمع المدني، وسأكتفي بالجمعيات النسائية لأهميتها وسياقها التاريخي؛ فهي مؤشر حقيقي لمستوى الوعي الحضاري لأبناء وبنات دمشق، ومنها: «جمعية نقطة الحليب، يقظة المرأة الشامية، خريجات دور المعلمات، دوحة الأدب، نساء العرب القوميات، الرابطة الثقافية النسائية، النادي الأدبي النسائي،…» ويأتي تكوين الأحزاب السياسية مظهراً آخر على المستوى الحضاري والتطور الفكري وفي هذه الفترة شهدت دمشق ظهور الأحزاب الشيوعية (سوريا ولبنان)، حزب الشعب، الحزب الوطني،….
الجامعة السورية: من المحزن أن تظهر دمشق وأبناؤها تحت رحمة الحلاق الذي يعالج المرضى في عمل فني يفترض أن يكون سورياً، فما هي الحقيقة؟
انطلق معهد الطب (مدرسة الطب) باللغة التركية 1903م، ثم أسست مدرسة الحقوق، وأعلنت (الجامعة السورية) بعد ضم معهد الطب ومدرسة الحقوق معاً تحت مسمى الجامعة السورية في 1919م وبدأت الدفعات في الدراسة، وتقول المصادر أن أول دفعة من الأطباء الرسميين تخرجت 1930م، وقبلها دفعات قبل المسمى الرسمي وكانت أول طبيبة سورية لوريس ماهر، أي في العام 1936 لدينا سبع دفعات من الأطباء، وأعتقد أن هؤلاء لم يهاجروا بالبحر هرباً من البراميل، بل ورد ذكرهم في دليل الهاتف مع عناوين عياداتهم واختصاصاتهم، وقد تجاوز عدد العيادات الطبية (400) عيادة في دمشق عامة واختصاصية، إضافة للخريجين من أبناء البلاد من جامعات أجنبية، وهم كثر، وهواتفهم كانت رباعية الأرقام، كما وردت في الدليل، ومثلهم من الصيادلة والمحامين، نعم دمشق في تلك الفترة فيها الهاتف نصف الآلي، والميترو الكهربائي (الترومواي)، والحدائق الغناء والفنادق الفاخرة، التي تعقد فيها المؤتمرات، مثل فندق «فيكتوريا» الذي عقد فيه مؤتمر المرأة الشرقية 1930م ولعدة أيام برئاسة نور حمادة بعدما تم نقله من الجامعة السورية إلى الفندق، وقامت جريدة الشعب بالتغطية الإعلامية بعددها (869)، وأفردت المساحة الكافية لتوصياته ومناقشاته.
الصحافة الدمشقية: شهدت دمشق حركة صحفية نشطة في الفترة 1930-1940م، وسأكتفي بالصحافة الساخرة، إضافة للصحافة الجادة (جريدة الشعب،….)، فقد صدرت صحف عديدة بأسلوبها الساخر ومنها: «حط بالخرج 1909م، جحا 1911م خير الدين الزركلي، الطبل 1927م خليل زقوت، الخازوق 1928م، الكرباج 1927م، المزاج 1930م،….. وكلها كانت تعبر عن هموم الناس بأسلوب هزلي مع رسوم الكاريكاتير، وكثيراً ما كانت تثير حنق المستعمر، فيلاحق أصحابها!
الدستور السوري: في العام 1928م أعدت الجمعية التأسيسية أول دستور سوري حيث تم إعلانه 1930م، ولست معنياً الآن بالنقاشات التي أثارتها بعض مواده، بل أريد القول أن الشعب الذي يصنع دستوره هو شعب راق يستحق أفضل من «باب الحارة» إذا علمنا أن المرأة السويسرية لم تنل حق التصويت إلا في الستينيات!
وفي العام 1920 م نال مصنع «الغراوي» للمربيات في دمشق الميدالية الذهبية في معارض باريس والقاهرة وروما.. ومنتجات سوريا القطنية تباع للنخبة في باريس، ترى هل أدركنا ما فعله الرعاع بمدينتنا!
ترى لصالح من تشوه دمشق، لتتحول إلى مسخ مشوه، وحفنة من الأفاكين؛ دمشق بلا شعراء ولا أدباء ولا قضاة ولا فنانين ولا مهندسين ولا بورجوازية، يظنون أنهم دمشقيون إذا بالغوا في لهجة ليست لهم، هم الطارئون عليها، ترى هل ينبري بعض أبنائها للدفاع عن تاريخ بلادهم ضد السفهاء من كتبة ومخرجين ومنتجين؛ ليقيموا عليهم الدعاوى القانونية في كل مكان تسوده القوانين، دعوى لبيان الضرر اللاحق بنا جميعاً، أما الممثلون الصغار فهم مساكين يبحثون عن لقمة خبزهم، لست أبرر لهم، ولكنني لا أكترث لهم، فتجار التاريخ هم من يجب أن تطاولهم العقوبة ولو بعد حين! إنها ليلة إعدام دمشق!! إلى متى يرتبط شهر الصوم والبركة بحفلات الإعدام هذه؟!