#ليس_نبياً_مقبولاً_في_وطنه
بقلم
دينا قرمة
فازت مؤخرا المخرجة اللبنانية نادين لبكي بجائزة التحكيم في مهرجان كان السينمائي للدورة ٧١ الاخيرة لهذا العام عن فيلمها بعنوان “كفرناحوم “…
ووسط تصفيق حار دام ربع ساعة متواصلة (شاهد الفيديو اسفلاً) عقب عرض فيلمها يوم الخميس المصادف ١٧ ايار بالمهرجان ،استلمت جائزتها التى تعتبر الجائزة بالمرتبة الثالثة في ترتيب الجوائز التى يمنحها المهرجان…
وبالرغم من ان هذا الانجاز الكبير للمخرجة اللبنانية سواء على الصعيد الشخصي او على مستوى تمثيلها للبنان بوجه خاص والعالم العربي بوجه عام والذي لم يحظى اي احد عربي اخر بهكذا تكريم او جائزة مماثلة منذ زمن طويل … فبالرغم من هذا الانجاز ، قوبل هذا التكريم بهجوم على المخرجة والفيلم من ابناء جلدتها وبالاخص من انصار ونواب حزب الله وابواقها الاعلامية…
لنرى ماهي قصة هذا الفيلم؟…
تدور احداث الفيلم حول اطفال الشوارع المشردين في ازقة بيروت، واغلب ابطاله هم اطفال مشردون حقيقيون غير محترفين للتمثيل الذين اختارتهم المخرجة من المخيمات واطفال شوارع بيروت … الطفل البطل زين هو طفل سوري عمره ١٣سنة يعيش بمخيم درعا والطفلة
سحر بعمر ١٢ عام هي طفلة شارع تتنقل بين العربات لتبيع علب المناديل بالشوراع …
يتناول الفيلم موقف درامي للطفل زين من ذويه ، اذ يرفع دعوى قضائية عليهم لانهم انجبوه ويحاكمهم … هذا الطفل لايملك هوية وغير مسجل رسمياً ولايعرف حتى تاريخاً حقيقياً لميلاده … ويهرب من البيت بعد ان يحاول دون جدوى ان يمنع تزويج شقيقته المفضلة له ذات الاحدى عشر عاما من رجل مستغل يدفع مالاً لشرائها … فيحاول الطفل زين ان يقتل العريس انقاذاً لاخته ثم يهرب … لكنه يقف بالمقابل بالمحكمة كمجني عليه ليحاكم اهله بدل ان يكون هو الجاني……
الفيلم يتناول ايضا مجموعة مواضيع اجتماعية واقتصادية مهمة اخرى ، فيسلط الضوء على عدة قضايا الى جانب الطفولة المهمشة، ومنها حقوق الخدم المهدورة بالمنازل للعاملات الاجنبيات من الجنسيات الفلبينية واثيوبيا ،… وموضوع زواج القاصرات … وخذلان المجتمع العربي لهؤلاء الاطفال ولجميع تلك القضايا … تُصور اغلب مشاهدالفيلم بأحياء بيروت الفقيرة، ليظهر الفيلم بذلك صورة مغايرة لبيروت الجميلة ، اذ يظهر بيروت التحتية بعشوائية بناءها وفقر ساكنيها …
قيمة هذا الفيلم تكمن في اهميته كشهادة توثيقية لمعاناة هذه الشريحة المهمشة والمهمة “اطفال الشوارع في لبنان والوطن العربي ” … هي نفس قضية هشام الذهبي ببغداد والذي يناضل بكل قوته لاجلها لنيل حقوقهم بالعيش الكريم كأطفال…… ولكن ومع الاسف بدون اي مجيب سواء على المستوى الرسمي او المجتمعي… ومن هنا بالذات يبدأ اهتمامي بهذا الفيلم على وجه الخصوص والذي جعلنى اكتب عنه …
بالرغم من اهمية هذا الموضوع التى يدور حوله الفيلم ، لكننا نرى انه قد اثار بالمقابل الكثير من الجدل حوله ، وهوجمت مخرجته حتى قبل مشاهدتهم الفعلية له … فهنالك من صنفه انه ابتزاز للعواطف والمشاعر بدلاً من الغوص بعمق المشكلة…( يبدو من وجهة نظر هؤلاء انه يحق لهم ابتزاز المشاعر عندما تكون لمصلحة ايديولوجية ما او حزب معين والتى نراها بأم اعيننا كل يوم على شاشات التفلزة والقنوات الممولة ، لكن لايحق ابتزاز تلك العواطف لاغراض انسانية بحتة… ولنا من تلك الامثلة للابتزاز السياسي الرخيص الكثير ، سواء تحت شعار غزه تحترق اوالمضايا تحترق وحلب والخ من المسميات متناسين هنا ان الفرق جدا كبير عندما يكون الهدف على المستوى الاخلاقي والانساني) ………
فمااحوجنا اليوم حقيقة الى هذا النوع من الابتزاز … انه برأي ابتزاز اخلاقي مشروع تباركه كل نفس تواقة للانسانية وللسلام والخير والعدالة بالعالم ……المخرجة تقول : “الاطفال الذين مثلوا بالفيلم هم لم يمثلوا بل عكسوا واقعهم الاليم واستطاعوا ايصال رسالة الى العالم”…
اسم الفيلم “كفر ناحوم” مثير للانتباه ايضاً، … لم تذكر المخرجة سبب اختيارها لهذا الاسم، وماالرمزية الكامنة خلف الاختيار…
لكن من يعرف الشيء البسيط عن حياة المسيح ، وله بعض الاطلاع على الانجيل يفهم مدى اهمية بلدة كفرناحوم بالانجيل … فهي تمثل البلدة الذي القى بها المسيح عظته العظيمة المسماة “موعظة الجبل”
تتمحور هذه العظة حول مجموعة تطويبات والتى اعتبرت دستورا للعقيدة المسيحية وتعد انقلابا على الشريعة اليهودية التى كانت كلمة ملعون بالمقابل هي المفهوم المهيمن عليها…
فطوبى للمساكين ……وطوبى للحزانى
وطوبى للودعاء والجياع والعطاش… وطوبى للرحماء وانقياء القلوب …وطوبى لصانعي السلام …واخيرا طوبى للمطرودين……
كذلك تمثل كفرناحوم البلدة التى بدأ يسوع عمل معجزاته بها …وقد اثار هذا الشيء تساؤل اهل مدينته الناصرة فيذكر لنا الانجيل انهم تساءلوا “لماذا لم يبدأ معجزاته في بلدته ؟” فكان رده عليهم ” الحق اقول لكم ليس نبياً مقبولاً في وطنه ” بمعنى انتم اهل بلدتي لاتقبلونني ولاتؤمنون بي ،فلذا أستحق اهل كفرناحوم المعجزات لايمانهم ولم يستحقها اهل الناصرة…
يبدو لي هنا ان مفارقة استخدام نادين لبكي لاسم كفرناحوم يحمل في طياته رؤيا مستبقة من قبلها لما ستواجه به فعلياً من ابناء جلدتها …فتنطبق هنا مقولة المسيح لاهل بلدته “ليس نبياً مقبولاً بوطنه “… فبالوقت الذي نرى العالم الغربي يصفق لها تصفيقاً مبهراً …يقوم ابناء جلدتها بتهميش انجازها ومحاولة تسقيط اهميته…… فقد جوبه انجازها هذا من قبل نواب حزب الله وإعلاميوه بالتسقيط وتسخيفه ، من منطلق أن مجد لبنان أعطي فحسب لشهداء حزب الله وليس لفيلم تقوم به مخرجة … (اي مهزلة تلك فلا مجد بدون دم وشهداء وقاتل ومقتول) فنرى تغريدة هنا وهناك بهذا المعنى ومنها تغريدة لمقدمة برامج في قناة لبنانية لحزب الله.
ويعقبها تغريدة لاحد نواب حزب الله في البرلمان اللبناني اذ قال: “بلا لبكي، بلا وجع راس: وقت الجدّ ما فيه غير سلاحك بيحميك”.
حزب الله هنا نموذجاً اعرضه فقط وليس هو الغرض من المقال ولا هو مايهمنى بشيء … فما حزب الله الا صورة نموذجية لاحزابنا السلطويه سواء بالعراق اوبالعالم العربي على العموم …تلك الاحزاب التى تمجد ثقافة الموت مقابل ثقافة الحياة … فنحن فعلاً نعيش اليوم هذا الصراع الثقافي… نعيشه على ارض الواقع ونعيشه على صفحاتنا الفيسبوكية …………لكن واؤكد هنا على “ولكن” ومن دون شك ستنتصر بالاخير ثقافة الحياة رغما عن انفهم جميعاً ………
أحب ان اختتم مقالتى هذه بالكلمة التى القتها المخرجة نادين لبكي بحفل التكريم وبعد التصفيق الحار الذي تلقته، … لعل لكلماتها تلك تكون اخر واهم شيء يعلق بأذهاننا من هذه المقالة …
تقول المخرجة نادين “أتذكر تلك الفتاة الصغيرة التى تدعى سيدرا والتى لعبت دور سحر شقيقة زين بالفيلم. ……هي اليوم على الأرجح قد قضت يومها واقفة تحت الشمس تواجه مصيرها ووجهها ملتصق بشبابيك السيارات، وهي تحاول الدفاع عن نفسها بوجه الشتائم والإهانات من هنا وهناك. وعلى الارجح، حاولت الاستعانة بحكمتها كطفلة بعمر ١٢سنة تعلمت في الشارع، أو ربما عادت إلى منزلها لتجلي وتغسل ملابس العائلة كلها، ولتُحضِّر الطعام لكل أخوتها وأخواتها، ثم ذهبت للنوم وهي تحلم بالذهاب للمدرسة في يوم من الأيام ككل أطفال العالم”.
وأضافت : “بكل ما ملكته من إرادة لم أتمكن من إنقاذ سيدرا من الشارع. ولا أعلم ماذا سيكون مصير زين عندما يعود الى منزله، ولا مصير أخوته وأخواته، ولا مصير السورية الصغيرة في الفيلم التي تدعى ميسون، لكنني أدعوكم للتفكير لأن الأطفال الذين لا يتلقون الحب هم أساس تعاسة هذا العالم. لذلك، أتمنى ان نفكر معًا لإيجاد الحل”………