لوليد جنبلاط طريقته الخاصة في إيصال الرسائل لمن يهمه الامر. لم يشذ عن هذه القاعدة في شهادته امام المحكمة الخاصة بلبنان الناظرة في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
طوال الأيام الأربعة، بدا لبنان الجنبلاطي خالياً من حزب الله. حين تحدث عن حلفاء سوريا في لبنان إبان حقبة الوصاية ذكر كل الأسماء الكلاسيكية مع عدا الحزب. لم يسقط الاسم سهواً، بطبيعة الحال، بل غيب عمداً.
قبل السابع من أيار ٢٠٠٨، وفي ذروة اشتباكه مع حزب الله، اختبأ جنبلاط وأحاط نفسه بأعلى درجات الحماية الامنية وفنون التمويه. كان في اختبائه يشير ضمناً الى من يخشى على حياته منهم. بعد السابع من ايار واستكمال انعطافته السياسية، عودةً الى مربع فلسطين والمقاومة وإسقاط اتفاق ١٧ ايار وكل ارشيف الوصاية، وفي أعقاب “تصالحه” مع حزب الله، غادر مخبأه وعاد، رويداً، الى تلقائيته التي يحب. وفي أولى مشهديات هذه التلقائية، تناول طعام الغداء على تراس مطعم “السلطان ابراهيم” في الهواء الطلق، على ناصية شارع يبعد شارعين عن ما سيكون ساحة جريمة اغتيال الحبيب محمد شطح، بعدها بسنوات قليلة.
لم يعد خائفاً من القتل. حيد من يعرف ان بوسعهم شطبه بالاتفاق معهم. والبقية تفاصيل. الرسالة نفسها التي ارسلها ضمناً من المطعم البيروتي ارسل جنبلاط ما يشبهها من لاهاي، الى حيث أخذ النهر معه، منتظراً عند ضفته مرور جثث اعدائه، مكتفياً بالاشتباك مع من ما عاد بوسعه ان يقتل في لبنان.
لم تفت هذه الرسالة العارفين باحداثيات البث الجنبلاطي، من حلفائه وخصومه، على وجه التحديد. كان بديهياً، اذذاك، ان يلتقط اعلام وسياسيو الممانعة والمقاومة ما يفيد في التشويش على شهادة جنبلاط، العميقة قي دلالاتها السياسية باقل درجات الاستعراض والافصاح. ومن بين ما التُقط ودُفع به الى الصدارة الخبرية، قول جنبلاط ان اغتيال الحريري لم يكن في مصلحة سوريا! قفز الملتقطون والدافعون، بالعبارة هذه، الى مصاف الاعتراف بكونها تبرئة جنبلاطية لسوريا من دم الحريري، وبنوا عليها، انتصارات لفريق الدفاع، لا تمت الى واقع مجريات المحكمة بصلة.
نعم. اغتيال الحريري لم يكن في مصلحة سوريا. كما لم تكن قرارات سورية كثيرة في مصلحة سوريا. وغياب المصلحة عن قرار ما، لا يسقط الشبهة والاتهام بالمسؤولية عن القرار نفسه. هاتان مساحتان منفصلتان. مساحة المسؤولية عن القرار. ومساحة المصلحة فيه. والشواهد السورية لا تعد ولا تحصى.
اين مصلحة سوريا الان في ان يستمر النظام بالحرب على شعبه وتدمير مدنه وحواضره وتبديد اقتصاده وأمنه وسمعته وحاضره ومستقبله. اين المصلحة في تحويل سورية من دولة، الى ساحة في الشرق الاوسط، يدعو رئيس ميليشيا خصومه الى التقاتل فيها كأنها مشاع من مشاعات الإقليم. مع ذلك لا يشك عاقل في ان القرار بالمضي قدماً في الحرب هو قرار بشار الاسد. كان وسيبقى حتى يقع آخر حجر في سوريا عن الحجر الذي يسنده.
وأين كانت مصلحة سوريا في استغلال ١٥ عشر عاماً من السلم الأهلي اللبناني وتحكمها فيه، لصالح استنفار كل العداء لها ولجيشها ورئيسها وسياسييها، بدل الاستثمار في علاقات مستدامة؟ هل يشك عاقل ان القرار السوري في لبنان كان قرارا سيداً مستقلاً للأسدين، أباً وابناً؟
واين كانت مصلحة سوريا في قرار بشار الاسد بالتمديد لرئيس الجمهورية الأسبق أميل لحود، رغم كل العروض المغرية من رفيق الحريري برئيس يتفاهم عليه مع سوريا؟ الم ينتج عن القرار بالتمديد، ولادة اخطر قرار في تاريخ العلاقات اللبنانية السورية، هو القرار ١٥٥٩؟ الم يكن هذا قرار سوري صرف وتعبير عن إرادة بشار الاسد شخصياً؟ اليست كل تجربة بشار الاسد هي تجربة في العمق على تضاد فاقع مع كل ما يفترض انه مصلحة سوريا؟
المحتفلون بتصريح جنبلاط، عن ان اغتيال الحريري لم يكن في مصلحة سوريا، يريدون للعالم ان يظن اننا امام نظام شديد العقلانية، لا يأخذ خياراته الا بدقة الكيميائيين.
يوم السبت الذي سبق يوم الجريمة في الرابع عشر من شباط ٢٠٠٥، سأل رفيق الحريري احد الصحافيين الكبار عما يمكن ان تكون عليه خيارات بشار الاسد، حياله. اجابه الصحافي من دون تردد بأنهم سيقتلونه. فأردف، رحمه الله، بسؤال آخر. السوري (ويعني النظام) عاقل او مجنون؟ فأجابه الصحافي، بعد القرار بالتمديد للحود لا اعتقد انه عاقل.
تأكيد الجواب حملته متفجرة السان جورج ظهيرة ذاك اليوم المشؤوم. واليوم بعد عشر سنوات ثمة من يريد لنا ان نعتقد ان النظام عاقل، فقط لان وليد جنبلاط قال بصراحة ما يعتقد انه يجب ان يكون مصلحة سوريا.
نعم. اغتيال الحريري ليس من مصلحة سوريا. وليس من مصلحتها بقاء الاسد. السؤال الدفين الذي رماه جنبلاط. اين مصلحة حزب الله. اين مصلحة الشيعة في لبنان.
*نقلاً عن “المدن”