تنتاب العمالقة أحيانا مشاعر صغيرة. فجأة ينفجرون في أحاسيس ومخاوف وطباع لا تشبه مراتبهم. عندما غابت أم كلثوم عام 1975 طرح العالم العربي سؤالا متوقعا: من هي خليفتها؟ وكان جواب الأكثرية، إن لم يكن الجميع، أنها سوف تبقى بلا خليفة. وأزعجت الضجة المثارة نزار قباني فأغرق المتناقشين بماء النقد والغضب. وكعادته في توصيف العرب، قال إنهم يحاولون توثين البشر. ومما قاله: «غاب بيتهوفن فلم تتغير خريطة ألمانيا. وغاب (يوهان) شتراوس فلم يتغير لون الدانوب (…) والأصوات الجميلة، كاللوحات الجميلة، كالقصائد الجميلة، لا يمكن تحويلها إلى أوقاف أميرية».
كان ذلك قبل أربعين عاما. واحدة من موجات نزار وثوراته. ماذا حصل بعد ذلك؟ حصل أن نزار غاب وظل بلا خليفة. صحيح أن خريطة ألمانيا لم تتغير بعد غياب بيتهوفن، لكن لم يظهر أي بيتهوفن آخر منذ 1827، لا في ألمانيا ولا في النمسا ولا في فرنسا ولا في أي بلد يولد فيه كبار الموسيقيين. لم تكن أم كلثوم مغنية أو منشدة أو مطربة. كانت أسطورة من الفقر والنجاح والثقافة والذكاء، تحفظ عشرة آلاف بيت من الشعر، وتصحح القصائد التي تعطى لها لكي تغنيها. العشرات وقفن على المسرح يغنين، لكنها وحدها غنَّت أجمل الشعر الفصيح وأجمل الشعر العامي. وقد قال أحمد شوقي عن بيرم التونسي إنه الوحيد الذي يهدد الشعر الفصيح بالخطر. كانت أم كلثوم ظاهرة في الحياة الاجتماعية والسياسية والشعبية والفنية. تذكر مصر فتُذكر معها. وتروى حكاية «القرش صاغ» إلى أعلى قمة في تاريخ الغناء، فتعرف أنها حكاية أم كلثوم التي كانت تشترط في «طماي الزهايرة» أن يكون أجرها للغناء قرشا وكأس مهلبية وأزوزة «اسباتس». أمضت سنواتها الأولى تنتقل في القرى على الحمير والدواب. وتنتظر الساعات في محطات القطار لأنها كانت بلا مواعيد. وعندما جاءت إلى القاهرة وجمعت ثروة من 15 جنيها اكتشفت أن نشالا سرقها منها. فات نزار قباني أنه ليس للعباقرة قالب واحد. وربما كانت لديه مرارة مكبوتة وهي أن أم كلثوم لم تغن له. ومن غنت له أم كلثوم لم يعد يعرف أن يكتب الشعر إلاَّ لها. كمثل الهادي أحمد الذي كتب «أنت عمري»، أو جورج جرداق الذي غنت له «هذه ليلتي». ويروي أهم صحافي فني في لبنان، جورج إبراهيم الخوري، أنها «استحرمت» على جرداق أن يستمر في الكتابة الصحافية. وقالت له: «لكل مائة كاتب هناك شاعر عربي واحد». وعرضت عليه أن تتكفل بأي شيء يطلبه لقاء التفرغ لكتابة ملحمة عربية. لكن مثل جميع الشعراء أصر أن يبقى طليقا.
ربما أن بعض الجيل الجديد لا يعرف الكثير، أو لا يعرف شيئا، عن بعض الأسماء. سامحونا، واعتبروها كتابة تاريخ. لم تتغير خريطة مصر بعد غياب أم كلثوم، لكن لون الحياة قد تغير. ولم يتغير لون النيل، لكن العيون لم تعد ترى في صفحته تلك الأخيلة السعيدة.
منقول عن الشرق الاوسط