لم أكن أعرف أهمية ما يسمونه اللوبيات، أي «جماعات الضغط» بالعربية، قبل ذهابي إلى أميركا مع وفد من «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السياسية»، دعاه مجلس الأمن الدولي إلى جلسة استماع طرحت عليه خلالها أسئلة تدور حول هويته وبرامجه ومفاهيمه، مكنت رئيسه وأعضاءه من عرض وجهات نظرهم في قضايا مهمة تتعلق بوطنهم وشعبهم وثورته.
كان الحديث عن جماعات الضغط في كل مكان. وكنا كلما تحدثنا عن أمر، لفت المستمعون أو المحاورون أنظارنا إلى ضرورة تشكيل جماعة ضغط تتولى الدفاع عن قضيتنا وما يتفرع عنها من مسائل أمام هيئات ومنظمات الشرعية الدولية وبعض مؤسسات الدول الكبرى، وعرضها بالصورة التي تضمن مساندة الرأي العام لها، والضغط على خصومها لإجبارهم على الإقرار بأحقيتها، أو على التخلي عن معارضتهم لها.
هذه اللوبيات هي آلات منظمة تعمل بمنهجية مذهلة لا مجال فيها لأي تهاون، تحدد أهدافا لعملها تتفاوت بتفاوت القضايا التي تتبناها، وتبلور طرقا في مقاربتها وتحقيقها خاصة بكل حالة من حالاتها، تختلف بدورها باختلاف الجهات التي يراد إقناعها بقبولها أو كسر قدرتها على مقاومتها ورفضها. وبما أنها موجودة منذ وقت طويل، فإنها تمكنت من تطوير أنشطتها حتى صارت جزءا رئيسا في العمل السياسي الداخلي والدولي: الأميركي والأجنبي، يسارع كل مطالب بحقوقه أو حريص على كسب قضاياه – حتى إن كانت غير محقة – إلى التعاقد مع واحدة منها غالبا ما تكون متخصصة في مسائل بعينها، أو إلى تشكيل جماعة ضغط خاصة يوجه أنشطتها خبراء يعرفون بدقة مختلف أوجه العلاقات المحلية والدولية، والقوى المؤثرة فيها والقادرة على إيجاد سبل ومسالك من شأنها أن تضمن النجاح للقضية التي تدافع عنها.
ربما كانت جماعات الضغط ظاهرة غريبة عنا وعن تقاليدنا، التي قامت دوما على ثنائية السلطة والمعارضة، ولم تعرف فضاءات مفتوحة على السياسة تقع بينهما أو تكون مستقلة عنهما تعمل بالتسويات والتوازنات وما يتفرع عنها من مناورات، وتتطلبه من ضغوط وتكتيكات وعلاقات شخصية وعامة. بسبب افتقارنا إلى فضاء سياسي حر، يقع خارج مجال السلطة والمعارضة، يعمل في إطار تطبيع العلاقات بين الجماعات والأشخاص، لم نعرف في تاريخنا القديم والحديث ظاهرة جماعات الضغط أو ما يشبهها، وإن كنا عرفنا نمطا من الأشخاص والجهات ذات الحظوة لدى السلطة، تتوسط في بعض الأمور لحل مشكلات تقع غالبا خارج المجال السياسي، وتتصل بمصالح أو بترضيات معينة، يتعامل معها أصحاب قرار، يرون في تلبيتها أمرا إيجابيا يفضي إلى تنفيس الاحتقان في قطاع من الحياة العامة، أو إلى احتواء أطراف منه تربط بالسلطة أو تحيد حيالها.
ومع أن ظاهره جماعات الضغط ليست معروفة كذلك في ديمقراطيات أوروبا، فإنها واسعة الانتشار في أميركا الشمالية، حيث وجودها والإقرار بدورها الفائق الفاعلية أمران مسلم بهما، ومكانها من العمل العام مضمون بقوة الرأي العام والتقاليد، وربما القوانين، فلا يكاد مجال من مجالات الحياة العامة يخلو منها، وليس هناك هيئات تقريرية أو استشارية، رسمية أو حكومية، لا تتعامل معها باعتبارها جزءا تكوينيا وشرعيا من العمل العام، حتى صارت كبوابات يصعب تفادي المرور فيها لمن يريد التعامل مع هذه الهيئات والدفاع عن قضية ما أمامها، وإقناعها بشيء يريد موافقتها عليه. بالمقابل، من ليس لديه لوبي يتولى مساعدته، يكون كمن يقلص فرص كسب قضاياه، مهما كانت صلاته بالمؤسسات الرسمية وثيقة وقضيته محقة. يرجع هذا إلى بيروقراطية الحكومة والهيئات التمثيلية وبطئها في اتخاذ القرارات، وحجم ما يجب أن يتوفر لها من معلومات قبل حسم أي أمر، وتشابك أعمال دوائر متنوعة لكل واحدة منها حسابات ومداخل خاصة إلى المسائل العامة، لديها في حالات كثيرة تحفظات على القضايا المطروحة تبلغ حد الرفض.
انتبه النظام الأسدي إلى أهمية جماعات الضغط الإعلامية، فجند بعضها وأنفق عشرات ملايين الدولارات على حملات إعلامية نظمتها لصالحه، شوهت الثورة وحولتها من فعل حرية مجتمعي إلى صراع ينخرط فيه أصوليون مذهبيون ومتطرفون يريدون القضاء على نظام سياسة وحياة علماني، فلا بد من تنتبه المعارضة من اليوم فصاعدا إلى هذه الجماعات، وتجند بعضها لخدمة قضيتها العادلة وتصحيح صورتها لدى قطاع يزداد اتساعا من الرأي العام العالمي.
لا يجوز أن تحرم الثورة من خدمات جماعات الضغط. ولم يعد مقبولا أن لا تكل بعض قضاياها إلى لوبيات تنشط في إطار مؤسسات دولية وحكومات تلعب دورا حاسما بالنسبة لشعبنا، ولا بد أن تكون هناك في أقرب وقت جماعات ضغط تعمل لصالح حقنا، وتواجه تلك التي تنشط خدمة للباطل الأسدي، الذي يستعين بكل شيء في معركته معنا، ونقاومه نحن بوسائل محدودة وناقصة، تبطل خلافاتنا فاعليتها وتسهم في تغذية دعايته بمواد تساعده على الإمعان في تشويه سمعتنا!.