في كل مرة أزور اليابان أعاهد نفسي علي ألا أعود ثانية إلي تلك البلاد، التي لابد أن تصيب كل مصري بالأسي، لما بها من تقدم ونظافة ونظام وأدب جم، وهي كلها بالطبع أشياء لا لزوم لها كما نعرف في مصر، بل هي مضيعة للوقت، فنحن مشغولون هنا بالتخلف والقذارة والهرجلة وقلة الأدب، ولا وقت لدينا لتلك التوافه اليابانية التي عفي عليها الدهر والتي أقلعنا عنها منذ ما يقرب من نصف قرن من الزمان.
ولقد كان علي أن أستقل أسرع قطار في العالم وهو «قطار الطلقة»
Bullet train
، الذي تشبه سرعته سرعة طلقة الرصاص، ما بين طوكيو والعاصمة القديمة كيوتو، حيث كنت سألقي محاضرة عن الأدب المصري الحديث في جامعتها.
وما إن وقفت علي رصيف القطار حتي تذكرت نفس هذا الموقف في صيف عام ١٩٩٩، حين كنت في زيارة مماثلة لبلاد الشمس المشرقة، كما يسمونها، وكنت أستعد لركوب نفس القطار.
كانت تذكرتي تشير إلي أن مقعدي سيكون في العربة الخضراء، فهم يطلقون الألوان علي درجات القطار، فلا يقولون عربة الدرجة الأولي أو الثانية أو الثالثة وإنما العربة الخضراء والحمراء والصفراء، وأشار إلي مرافقي الياباني أن أقف في المكان المخصص علي الرصيف لباب العربة الخضراء، وفي الموعد المحدد بالضبط وصل القطار وجاء باب العربة الخضراء في المكان المحدد له مع فارق بضعة سنتيمترات من حيث أقف.
وأردت أن أعبر عن حنقي كمصري من هذا الانضباط الذي كان يملؤني حزنا علي حالنا، فقلت مداعبا مرافقي، بعد أن تأكدت أنه لم يزر مصر: ما هذا؟ إن باب العربة الخضراء جاء علي يميني بعدة سنتيمترات وليس أمامي تماما، كيف يسمح بتلك الفوضي؟!
لكن الشاب الياباني لم يفهم دعابتي الثقيلة وكست وجهه حمرة الخجل، وأخذ يتأسف لما حدث، مؤكدا أن هذا لا يحدث إلا نادرا، ووعدني بأنه سيخطر المسؤولين حتي لا يتكرر ذلك ثانية، فقلت له: أرجو ذلك، فمثل هذا التسبب يسيء إلي بلادكم أبلغ إساءة.
وضحكت في وجه مرافقي الياباني حتي أخفف من حدة الموقف الذي انقلب جدا بسرعة لم أتوقعها، وضحك هو معي تأدبا، لكنه ظل طوال الرحلة التي استغرقت أقل من ٣ ساعات يذهب ويجيء في القطار ويتحدث مع بعض العاملين، الذين كانوا يأتون معه واحدا وراء الآخر، إلي حيث أجلس، ليعتذروا إلي عما حدث، وحين وصلنا إلي كيوتو وجدت مدير المحطة ينتظرني بنفسه علي الرصيف، ليقدم لي هو الآخر اعتذاره عما حدث في محطة طوكيو، ومؤكدا أن ذلك لن يحدث ثانية.
وخشيت أن تستمر تلك الاعتذارات طوال فترة وجودي باليابان فتفسد علي رحلتي، فصارحت مرافقي بأنني لم أكن أقصد إلا المزاح وأكدت له أنني لا أمانع علي الإطلاق إن وقفت العربة الخضراء أمامي تماماً، أو علي يميني ببضعة سنتيمترات، ورجوته ألا يسمعني في الفترة المتبقية لي في اليابان أي اعتذارات في هذا الموضوع منه أو من غيره.
وفغر مرافقي الياباني فاه في دهشة وهو يقول: لماذا؟ قلت: لأن تلك مسألة عادية جدا بمقاييسنا، وهي يمكن أن تحدث في أي مكان! قال: ولكنها لا تحدث في اليابان، فقلت له: إن اليابان ليست وحدها في هذا العالم، وهناك دول أخري لن أسميها لك، لا تحدد أماكن وقوف العربات علي الإطلاق، وما إن يصل القطار حتي يتدافع جميع
الركاب إلي جميع الأبواب بأمتعتهم كي يسدوا الطريق علي بقية الركاب في فوضي خلاقة ربما تحسدنا عليها الولايات المتحدة، فلم يبد علي مرافقي أنه فهم شيئاً، فقلت: إنها حرية شخصية، وكل دولة لديها الحق في تطبيق النظام الذي يعجبها!
وفي رحلتي الأخيرة تذكرت ذلك الموقف وأنا أقف أمام المكان المخصص للعربة الخضراء علي رصيف محطة كيوتو، وقلت إنني لن أعلق علي الإطلاق هذه المرة لو أن العربة وقفت أمامي تماماً أو علي بعد سنتيمترات مني، حتي لا أفسد إقامتي هذه المرة بسلسلة الاعتذارات التي توالت علي في الزيارة السابقة.
لكن ما إن وصل القطار في موعده، بالثانية طبعا، حتي وجدت أمامي مباشرة باب العربة الخضراء، مما أفسد علي زيارتي أيضا لأني ظللت أتحسر علي حال بعض الدول الأخري العزيزة علي، إلي أن أصبت بحالة إحباط مرضي، جعلتني أقسم أنني لن أزور اليابان ثانية!
(نقلاً عن الأهرام)