في هدأة الليل أسمع نشيج الأولاد، وضبوا أمتعتهم وسيرحلون غدا إلى ديرتهم.
لم يعد لهم خبزة في هذه المدينة ولا موطء قدم.
استنفذت العائلات مدخراتها وذهب النساء ضاع برخيص المال ، ولم يعد المسافرون بقدرة على ضخ المزيد..
كلهم يقولون لهم عودوا إلى الديرة ولو كانت مجرد غرفة ونحن نتدبر مصروفكم! لم يعد بدل الإيجار متوفرا بسهولة ، ولم يعد في قائمة اولويات المساعدة ، فالجيوب الفارغة حال الجميع..
من على الشرفة أسمع الرجل يفاصل سائق الخافلة حول أجرة النقل..يقول له : (كلشي معنا كم جنطاية تياب وشوية فرش)..لكن السائق لا يتعاطف ، والحرب تثبت اقدامها هنا بعد ان تلاشى حلم أن احدا سيدفع ليصلح ما دمرته الحرب..
في السرفيس تقول المراة لابنتها انها لن تعود قبل أن تؤمن موعدا مع طبيب الأمراض النفسية ليشرح لها خطة علاج ابنها الوحيد لسنة كاملة على الأقل.
حركة عودة بلا روح ولا انفعال ومخاوف من الشوق ذاته..جلبة في البيوت وحقائب تربط بجوارب عتيقة وفرش تساند بعضها لتكون مستقرا للاطفال في ترحال مهيب..تبدو الفرش كنعش متهالك لميت طاعن في غربته.
يقول طفل لن اودع رفاقي واكاد ارى دموعه تسيل حتى تصل ساحة الملعب المشترك!!، وتقول بنية لم أستلم جلائي ومرحتي بعد!
لا وقت للقول ولا مساحة ولا معنى له..اصحاب البيوت يحضرون أنفسهم لزيادة ملحوظة ببدلات الإيجار..فقط هنا ترتفع أسعار البيوت حتى عندما يقلّ الطلب عليها..
بخفي حنين وغصات ومواعيد دونما وفاء..يعودون..للخراب؟ نحو الخرائب الشامخة كطعنة في الروح، والروح تأبى البكاء وتتسامى فوق وحشة بلاد لاتشبهها إلا في الاهتراء واستعصاء التقبّل.