أحمد صبحى منصور
لمحة عن دين التصوف السنى المملوكى
كتاب : نشأة وتطور أديان المسلمين الأرضية
الباب الأول : الأرضية التاريخية عن نشأة وتطور أديان المحمديين الأرضية
الفصل الخامس : تسيد دين التصوف السنى فى العصر المملوكى
( 648 ـ 921 ) ( 1250 ـ 1517 )
لمحة عن دين التصوف السنى المملوكى
1 ـ فى العصر المملوكى جمع دين التصوف السنى بين تناقضات دينى التصوف والسنة لصالح التصوف الذى سيطر على أفئدة الناس متمعا بالحظوة لدى المحكومين والحاكم على السواء. كما جمع التصوف السنى ـ كدين أرضى جديد ـ بين المتفق عليه بين دينى التصوف والسنة وهو تقديس البشر من أئمة وصحابة وآل البيت والأولياء الصوفية السابقين دون نقد أو سب لأحد كما يفعل الشيعة. واشترك الفريقان فى الحج الى الوثن المنسوب للنبى محمد عليه السلام فى المدينة وفى تقديس بناء الكعبة والحجر الأسود.
معروف أنه ليس فى الاسلام تقديس لبشر أو حجر .الحجر الأسود مجرد حجر لتحديد بداية الطواف،والطواف بالكعبة ممنوع فيه لمس الكعبة حتى لا تتحول الى وثن مقدس، والكعبة مجرد بناء حجرى غير مقدس، وقع وأقيم أكثر من مرة، إنه فقط يحدد مكانا اختاره الله تعالى ليتجه اليه المؤمنون فى الصلاة وفى الحج.
لم يقتصر الأمر فى دين التصوف السنى على تقديس الكعبة بالمخالفة لعقيدة الاسلام وانما تعدى الأمر ليصبح تقديسا لكل الأضرحة المقامة على جثث أو ذكرى الأولياء الصوفية وغيرهم من الأئمة والصحابة والأولياء الصوفية.كان الفقهاء والقضاة ـ ممثلوا السنة ـ هم قادة الاحتفال بالموالد الصوفية وروّاد التبرك بالأولياء الصوفية أحياءا وأمواتا.
2 ـ اصطنع التصوف السنى مرجعية مزيفة ربطته بالاسلام عن طريق تأويل قوله تعالى ( ألا إنّ أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) يونس 62 ) على أساس أنها تعنى فقط الأولياء الصوفية، وتناسوا الآية التالية( الذين آمنوا وكانوا يتقون ) التى تجعل ولاية الله صفات عامة لكل مؤمن وتقى قبل وبعد نزول القرآن الكريم. كما تجاهلوا هجوم القرآن الكريم على اتخاذ المشركين لأولياء مقدسة بزعم أنها تقربهم لله تعالى زلفى ويعتقدون فيها النفع والضرر والشفاعة والحياة الأبدية فى القبور،وهو بالضبط ما كان يفعله عرب الجاهلية وندد به القرآن ثم عاد المسلمون اليه تحت عباءة التصوف السنى ـ ولا يزالون يفعلون.
كما اعتمد التصوف السنى المرجعية المزيفة التى ارساها الشافعى فى (الرسالة ) والتى أوّل من خلالها الأمر الالهى بطاعة الرسول بأنها طاعةالأحاديث التى تم تدوينها ونسبتها كذبا للرسول محمد عليه السلام بعد وفاته بقرنين وأكثر. وبالتالى فقد تحول أئمة الحديث الذين ماتوا فى القرن الثالث الهجرى فى العصر العباسى الى آلهة معصومة فى دين التصوف السنى بحيث أصبح نقد البخارى كفرا، وكان من المعتاد أن يعقد العصر المملوكى فى رمضان من كل عام ( ميعادا ) لترتيل البخارى، وتنافست المؤسسات الصوفية فى تقسيم البخارى الى أجزاء أو ( ربعات ) أى أرباع مثل المصحف ، وعكفوا عليه حفظا وترتيلا دون فهم بمثل ما كانوا يفعلون مع القرآن الكريم .
كان البخارى أكثر كتب الحديث تقديسا فى العصر المملوكى، وورثنا منه هذا التقديس. والسبب فى تفضيل العصر المملوكى للبخارى أنه بدأ بارساء عقيدة الاتحاد الصوفية فى حديث مشهور يزعم أن الله تعالى قال : ( من عادى لى وليا فقد آذنته بالحرب ) ثم ينتقل الى تقرير عقيدة الاتحاد والحلول زاعما أن الله تعالى يقول عن الولى الصوفى : (كنت يده التى يبطش بها وقدمه التى .. الخ ).
3 ـ كان الصوفية الأوائل يكرهون الحديث ويقاطعون مجالسه لأنه يعبر عن دين السنة المخالف لدينهم ، واقرأ ما كتبه فى ذلك ابن الجوزى فى كتابه ( تلبيس ابليس ).ولكن عقد الصلح بين دينى السنة والتصوف ترتب عليه اشتغال كبار الصوفية بالحديث،أى بتأليفه ووضعه وتزويره ونشره.و تبارى أئمة التصوف اللاحقون فى تأليف أحاديث ( نبوية ) تدافع عن عقائد التصوف ومقالاته. ووضع الأحاديث فى تدعيم التصوف السنى اشتهر به الغزالى ت 505 فى كتابه (احياء علوم الدين) الذى قال عنه النووى ( كاد الاحياء أن يكون قرآنا ). وقد قام الامام العراقى بتخريج ـــ أو نقد ـــ الأحاديث التى ذكرها الغزالى فى ( الاحياء ) وأثبت بطلان معظمها بمنهج المحدثين، وقال عن المئات منها أنه ( لا أصل لها ) أى أنها لم تعرف من قبل، أى أن الغزالى هو الذى اخترع ذلك الحديث بنفسه.
استمرت صناعة الحديث تتكاثر بعد الغزالى، حتى أن علماء الحديث الحنابلة أنفسهم كتبوا ينتقدون تلك الكثرة من الأحاديث. وأبرز من كتب فى الأحاديث الموضوعة ابن الجوزى فى ( الضعفاء والمتروكين ) وفى كتابه ذى الأجزاء الستة ( غريب الحديث ) وقد كتبه سنة 581. وعلى نسقه كتب ابن تيمية رسالته ( أحاديث القصّاص ) وابن القيم فى ( المنار المنيف فى الصحيح والضعيف ) والسيوطى فى ( اللآلىء المصنوعة فى الأحاديث الموضوعة ). والطريف أن السيوطى جمع كل الأحاديث المتداولة فى عصره فى كتابيه ( الجامع الكبير ) و( الجامع الصغير ) واخترع السيوطى نفسه عشرات الأحاديث ملأ بها رسائله والتى لا تزال مخطوطة لا تجد من يجرؤ على نشرها .
4 ـ وبدأ الصوفية الأوائل دينهم بانتحال الوحى الالهى عن طريق الهاتف أو رؤية الله تعالى أو الرسول فى المنام زاعمين أن الله تعالى أو الرسول خاطبهم بهذه الطريقة. وبذلك لم يكونوا محتاجين لاختراع أحاديث نبوية واختراع سند ورواة لها. والمتطرفون منهم زعموا أن العلم اللدنى الالهى يفيض فى قلوبهم نابعا من الله تعالى بدون واسطة طبقا لنظرية الاشراق الغنوصية التى تجعل العلم الالهى يتدفق على قلب العارف من الله تعالى مباشرة، فيقول أحدهم ( حدثنى قلبى عن ربى ..) أو ( قيل لى .. ).
وهوجم الصوفية الأوائل بسبب هذه المزاعم، إلاّ أن الغزالى ملأ كتابه (الأحياء ) بالمنامات والهواتف ومزاعم أخرى من نوعية أن الله تعالى ( أوحى لبعض الصالحين ) أو ( أوحى لبعض الأنبياء ) ويذكر آراءه بزعم أنها وحى الاهى لبعض الصالحين أو لبعض الأنبياء دون أن يذكر اسما أو أن يحدد ماهية الكتاب السماوى الذى يزعم أنه ينقل عنه، وبذلك جعل آراءه وحيا سماويا، أى جعلها دينا أرضيا وفق عادة مخترعى الأديان الأرضية. وهو إفك يهون الى جانبه إفك مسيلمة الكذّاب الذى لم يزد عن ادعاء النبوة فجاء أولئك يزعمون الألوهية والجلوس فى الحضرة الالهية ورؤية الله تعالى فى المنام وفى اليقظة وحلوله فيهم أو اتحادهم به. وهذا ما اجتهد الغزالى فى تسويغه فى مواضع شتى نثرها بدهاء شديد بين سطور (الأحياء ) مستعملا أكاذيب المنامات والوحى حتى اكتسب الوحى الصوفى مصداقية فى العصور التالية ولم يعد محلا للانكار.
بعد التسليم بمبدأ الوحى للولى الصوفى أصبح معتادا فى العصر المملوكى الاعتقاد فى قدرة ( المجاذيب ) أوالمختلين عقليا على محادثة الله تعالى بزعم أن عقولهم قد (جذبتها الحضرة الالهية). وبتكاثرمزاعم المنامات والهواتف وفى ادعاء المنامات والكرامات والهواتف جرؤ على انتحالها بعض الفقهاء المتأثرين بالتصوف. كان منهم السيوطى الذى لم يكتف بتزييف الأحاديث وانما كان يزعم أن رسول الله محمدا عليه السلام كان يسعى اليه فى اليقظة ليسأله عن الحديث والتفسير ويقول له : هات يا شيخ الحديث . وهذا ما ذكره الشعرانى عنه فى طبقاته الصغرى.
5 ـوعموما كان الصوفية نوعين : نوع ادعى الاعتدال وتسويغ التصوف عن طريق الحاقه بالسنة لمنع السنيين من الانكار على التصوف ، وانصب عملهم على تأطير عقائد التصوف والتعبير عنها بالرمز ومحاولة تسويغها . النوع الآخر جاهر بعقيدته الصوفية شعرا أو نثرا كابن عربى والجيلانى.
وبعضهم قرن التصريح عن عقيدته الصوفية باعلان كفره بالاسلام ومنهم:
الشيخ ابن البققى المصرىالذى اشتهر فى القرن التاسع الهجرى بالانحلال والاستهزاء بالدين والافطار فى رمضان بغير عذر،(… وانه كان يضع الربعة الشريفة- أى المصحف – تحت رجليه ويصعد فوقها يتناول حاجة له من الرف ) ( ابن حجر : الدرر الكامنة 9/329 ).
ومنهم الشيخ الصوفى المشهور فى القرن السابع عفيف الدين التلمسانى ت 690 ، قيل عنه” نسبت اليه عظائم فى الأقوال والفعال والعقائد فى الحلول والاتحاد والزندقة والكفر المحض ” وأنه لا يحرم الزنا بأى امرأة، ويحل الزنا بالأم والبنت ويقول : وانما هؤلاء المحجوبون – أى غير الصوفية – قالوا حرام فقلنا حرام عليكم “.
وقال عنه ابن تيمية ” هو من حذاق القائلين بالاتحاد علما ومعرفة”. ونشرح باختصار بعض هذا الكلام لنفهم كلام ابن تيمية عن التلمسانى : الاتحاد فى مصطلح الصوفية هو اتحاد الصوفى بالله تعالى عن ذلك علوا كبيرا، والحلول يعنى عندهم حلول الذات الالهية بالصوفى ، أما وحدة الوجود فهى عندهم تعنى انه لافارق على الاطلاق بين الخالق والمخلوق، وأن لا وجود لله خارج المخلوقات فهو عين المخلوقات !! وأشهر من أعلن هذا الحلاج وابن الفارض وابن عربى وكان عفيف الدين التلمسانى هذا تلميذا لابن عربى . ونتابع ابن تيمية وهو يتحدث عنه : وكان يظهر المذهب بالفعل فيشرب الخمر ويأتى المحرمات وحدثنى الثقة أنه قرأ عليه – كتاب – فصوص الحكم لابن عربى، وكان يظنه من كلام أولياء الله العارفين ، فلما رآه يخالف القرآن قال له – أى للتلمسانى – هذا الكلام يخالف القرآن ، فقال : القرآن كله شرك وانما التوحيد فى كلامنا.. وحدثنى عن من كان معه ومع آخر نظير له فمرا على كلب أجرب ميت بالطريق عند دار الطعم ، فقال له رفيقه : هذا أيضا هو ذات الله ؟ فقال : وهل هناك شىء يخرج عنها ؟ نعم الجميع فى ذاته”!!
وتكررت نفس القصة فى الاسكندرية فى القرن التاسع يرويها الفقيه البقاعى فى تاريخه ” قال أحدهم لرفيقه ان الله تعالى هو عين كل شىء ، فمر بهما حمار فقال : وهذا الحمار ؟ فقال : وهذا الحمار . فروث الحمار من دبره فقال : وهذا الروث ؟ فقال : وهذا الروث “
(تاريخ ابن كثير 13 /326 – ابن العماد الحنبلى : شذرات الذهب 5 /412 – ابن تيمية مجموعة الرسائل والمسائل 1/145- تاريخ البقاعى -مخطوط ورقة 123)
6 ـ وبعضهم تخفى خلف ادعاء الجنون أو ( الجذب ) أى أن الله تعالى (جذب روحه ) اليه فأصبح بروحه يجالس الله فى حضرته بينما يعيش بجسده بين الناس، وهذا هو مدلول المجذوب فى العصر المملوكى. وبتسيد التصوف السنى فى أواخر العصر المملوكى أصبح من لوازم الاعتقاد فى الشيخ الصوفى جرأته فى الشطح ـ أى سب الله تعالى ورسله الكرام ـ واشتهر بذلك مدعو الجنون من المجاذيب، وكان يسعى الى التبرك بهم شيوخ الفقهاء والقضاة وهم أعمدة السنة فى دين التصوف السنى. وهناك فى الجزء الثانى من كتاب الطبقات الكبرى للامام الصوفى الفقيه عبد الوهاب الشعرانى تفاصيل مذهلة كتبها الشعرانى عن شيوخ المجاذيب المعاصرين له ، وهو يؤرخ لهم مفتخرا بما يقولون وما يفعلون لأن عصره كان يعتقد فى شيوخ الصوفية ويؤلههم. والشعرانى هو اِشهر شيوخ القرن العاشر الهجرى والذى أدرك أواخر العصر المملوكى وعاش ردحا من الزمن فى العصر العثمانى. وسيطرت مؤلفاته الكثيرة على الأجيال اللاحقة حتى عهد قريب. ونستشهد ببعض ما قاله عن أشياخه :
“كان الشيخ ابراهيم العريان رضى الله عنه يطلع المنبر ويخطب عريانا قيقول : السلطان ودمياط وباب اللوق وبين القصرين وجامع ابن طولون الحمد لله رب العالمين” فيحصل للناس بسط عظيم “
الشيخ شعبان المجذوب ” كان يقرأ سورا غير السور التى فى القرآن على كراسى المساجد يوم الجمعة وغيرها فلا ينكر عليه أحد ، وكان العامى يظنها من القرآن الكريم لشبهها بالآيات فى الفواصل ، وقد سمعته مرة يقرأ على باب دار فصغيت لما يقول فسمعته يقول: وما أنتم فى تصديق هود بصادقين .. ولقد أرسل الله لنا قوما بالمؤتفكات يضربوننا ويأخذون أموالنا وما لنا من ناصرين” ، ثم قال : اللهم اجعل ثواب ما قرأناه من الكلام العزيز فى صحائف فلان وفلان الى آخر ما قال..وكانت الخلائق تعتقده اعتقادا زائدا ولم أسمع احدا ينكر عليه شيئا من حاله ، بل يعدون رؤيته عيدا عندهم “
الشيخ محمد الخضرى قال عنه الشعرانى: كان يتكلم بالغرائب والعجائب .. ما دام صاحيا فاذا قوى عليه الحال تكلم بالفاظ لا يطيق أحد سماعها فى حق الانبياء ” .. ” وجاءهم يوم الجمعة فسألوه الخطبة .. فطلع المنبر.. ثم قال: وأشهد أن لا اله لكم الا ابليس عليه الصلاة والسلام” فقال الناس : كفر . فسل السيف ونزل فهرب الناس كلهم من الجامع فجلس عند المنبر الى أذان العصر ، وما تجرأ أحد أن يدخل” ونكتفى بهذا ومن أراد المزيد فعليه بالطبقات الكبرى للشعرانى- الجزء الثانى .وهو مطبوع ومتداول .
7 ـ وساعد على تردى الحال غياب فضيلة الأمر بالمعروف الاسلامية والنهى عن المنكر والتى تطرف الحنابلة فحوّلوها فى العصر العباسى الى إكراه فى الدين وتسلط على الناس واعتداء عليهم وتدخل فى حريتهم الشخصية وبها اضطهدوا مخالفيهم من الصوفية والشيعة وأهل الكتاب. جاء التصوف بتطرف مضاد وهو عدم الاعتراض وعدم الانكار، والتسليم لكل انسان بحاله. وبعقد الصلح بين التصوف والسنة لصالح التصوف فقد تم التخلى عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى دين التصوف السنى وحل محله عدم الاعتراض وعدم الانكار فى الحياة الدينية والاجتماعية. وانتقل هذا الى الحياة العلمية والعقلية فتحول الاجتهاد الى تقليد وتحول التقليد فى العصر المملوكى الى جمود وتخلف فى العصر العثمانى. وبالتالى فقد أصبح البحث فى النواحى التى يتناقض فيها دينا التصوف والسنة من المحرمات. ومن يجرؤ على هذا من الفقهاء فمصيره الاضطهاد مهما بلغ شأنه ومهما كانت الحجج التى يستند اليها.
وهذا يفسر الاضطهاد الذى وقع على ابن تيمية ومدرسته.
وفى نفس الوقت فان أوباش الصوفية الذين يعلنون عقائد التصوف الأصلية من الحلول والاتحاد ووحدة الوجود ـ على نسق الحلاج ـ كان مصيرهم أيضا المحاكمات والاتهام بالردة واحتمال القتل مالم يتظاهروا بالجذب .وأحيانا كان يتم الصفح عنهم بحجة الجنون. والتفاصيل فى بحثنا الذى صادره الأزهر سنة 1979 ثم نشرته المحروسة فى القاهرة فى ثلاثة أجزاء سنة 2005 تحت عنوان ( الحياة الدينية فى مصر المملوكية بين الاسلام والتصوف) . وهو منشور الآن هنا .