(تذكر دائما بأن هناك فرقا كبيرا بين من يصف لك الدواء، وبين من يداويك).
في سلسة من المقالات السابقة تناولنا فيها موضوع الطائرات العراقية المنسية في إيران، وبالطبع لم تتمكن وامعتصماه أن تتجاوز الحواجز القطنية في أذان النظام الحاكم في العراق، وكان هذا الأمر طبيعي، لأن هذا النظام العميل تابع ذليل لنظام الملالي ولا يفهم غير لغة الإنبطاح، ولم يكتفِ بالسكوت عن القضية، بل حتى عن الطائرات السمتية والمحركات الجديدة التي نقلها فيلق بدر في بداية الغزو من الثكنات العسكرية وأرسلت لإيران تحت أنظار قوات الغزو الأمريكي، في دلالة واضحة على التنسيق المسبق بين دولتي الغزو.
كان فيلق بدر أكثر أخلاصا لنظام الملالي من الإيرانيين أنفسهم، فقد دعم القوة الجوية الإيرانية وزودها بطائرات ومحركات جديدة لتُستخدم ضد الشعب العراقي لاحقا. وطلبنا شهادات من الطيارين العراقيين حول الموضوع لغرض التوثيق، فمثل هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم، ومع الأسف الشديد فقد تم تصفية معظم الطيارين من قبل فوات بدر والموساد، ومن تبقى فهو خارج العراق ولا يأتمن على نفسه وإن كان في الغربة، فشبح الإغتيال والغدر لهم بالمرصاد. أغلقنا الموضوع تيمنا بالحكمة الإلهية” لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم”، عسى أن تتغير الأحوال وتسنح فرصة قادمة لعودة الحق إلى ديارنا المغتصبة والمنهوبة!
هذه المرة سنتطرق إلى موضوع ذي صلة مباشرة بنظام الملالي، وأكثر أهمية من الطائرات نفسها على إعتبار إن الإنسان هو القيمة العليا في المجتمع، والمادة مهما بلغت قيمتها وأهميتها لا تقارن بالإنسان، الإنسان فقط ما لا يمكن تعويضه. وهذا الموضوع يتعلق بالأسرى والمفقودين العراقيين منذ الحرب العراقية الإيرانية ولحد الآن. إنها مسألة ذات أهمية خاصة وتتجاوز الحواجز الطائفية التي وضعها الغزاة وأعوانهم من أقزام ولاية الفقيه أمامنا، على إعتبار إن هذه المجموعة المظلومة تتألف من كافة الشرائح العراقية. وحاولت الحكومة العراقية أن تطمس المسألة من أجل عين الولي الفقيه، وتسد الغطاء بشكل محكم كي لا تفوح رائحة عفونتها وتبعيتها الذليلة. ومثلما فعلت الحكومة العراقية ، فأن الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية ذات العلاقة ومنها الصليب الأحمر حذت حذوها، فأغلقت الملف وهو ما يزال ينبض بحياة الأسرى التي تترقب لقاء الأحبة، ووضعته في أدراج النسيان لغاية لا توصف بأنها سليمة، مهما كانت مبراراتها.
سنحاول جهد امكاننا ان نعالج الموضوع وفق رؤية وطنية بحته ونتجاوز الخطوط الحمراء التي وضعتها حكومة الاحتلال ونكشف عورات نظام الملالي وعملائهم في العراق، التي يحاول البعض التغطية عليها بسبب الولاء الطائفي لا غيره. لأن المسألة ذات إطار إنساني بحت وليس سياسيا. في الأسر عيون تتربص للقاء الأحبة شاحبة من هول الإنتظار، وفي الوطن عيون تترقب اللقاء وقد إنهكها الصبر، وتوشك على الإنفجار!
إنها رحلة للماضي تبدأ بها مع بداية الحرب العراقية الإيرانية، حيث وقع في الأسر الآلاف من الأسرى من الطرفين بحكم عمليات الفر والكر، وشدة المعارك وإختلاف موازين القوى العسكرية وإمتداد الحرب لثماني سنوات، بسبب إصرار الخميني على عدم إيقافها ضاربا المساعي الحميدة عرض الحائط، ومتجاهلا بغطرسته المعهودة جميع المبادرات السلمية من قبل المنظمات الدولية والإسلامية لوقف الحرب الشرسة، فقد كان منظر الدم فقط هو الذي يشبع غريزته المتوحشة. وهو يتحمل أمام الله المسؤولية الكاملة عن الدماء البريئة التي سالت من الطرفين منذ الأسبوع الأول للحرب، عندما وافق العراق على إيقاف الحرب ورفضها وإستمر على رفضه وتعنته لغاية عام 1988 وكان مذاقها سمٌا زعافا كما وصفها!
لا حاجة لذكر المآسي التي تعرض لها الأسرى العراقيون على أيدي نظام الملالي، فهذه ذكريات لا نحاول نبشها رأفة بأسر الشهداء من الأسرى والأحياء منهم، سواء الموجودين حاليا في العراق أو الذين مازالوا في إيران. بإعتراف المئات من الشهود ولا نقول الآلاف مع إننا لا نبالغ في ذلك. أن ما تعرض له الأسرى العراقيين على أيدي العراقيين من التوابين وأعضاء منظمة بدر ـ الممثلة الآن بالبرلمان العراقي ـ هو أشد هولا وعنفا مما تعرضوا له على أيدي سجانيهم الإيرانيين. ولازال البعض يتذكر كلمات السب والشتم التي كان يطلقها محمد باقر الحكيم ورهطه العفن على الأسرى، كلمات تتعفف عنها العاهرات والقوادات لبشاعتها. ومن له شك في كلامنا ليسمعها من الأسرى أنفسهم!
بعد إن إنتهت الحرب ماطل النظام الإيراني بعملية تبادل الأسرى تحت حجج واهية مخالفا بذلك مباديء الشرع الإسلامي والإتفاقيات الدولية ذات العلاقة، ولكن تحت الضعظ الدولي من جهة وخروجه مهزوما في الحرب من جهة أخرى، علاوة على مساعي المنظمات الدولية والإسلامية، رضخ النظام لعملية تبادل الأسرى بعد أعوام من إنتهاء الحرب. وكانت آخر وجبة من الأسرى قد وصلت العراق قبل بضعة أيام من الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، أي بعد خمسة عشر عاما من إنتهاء الحرب. حالة شاذة في تأريخ الحروب حتى الصهاينة لم يمارسوها. مثلا في معسكر(أراك مخصوص) كانت الزنزانة التي لا تتجاوز مساحتها 4 × 5 قدم تضم ما بين 30 ـ 36 أسيراً، وتعرض الأسرى بالآلاف إلى حالات التسمم بالغذاء، علاوة على أساليب التعذيب النفسي والجسدي التي مورست ضدهم، وأبرز نموذج على وسائل التعذيب الجسدي تلك، هي التي إستخدمها عميلهم باقري صولاغي (حاليا وزير النقل في حكومة العبادي) ضد أهل السنة عندما شغل وزارة الداخلية، فهي نسخة طبق الأصل، وباقري من تلاميذ إكاديمية الإرهاب التي يديرها نظام الملالي.
تَحفظَ النظام الإيراني على عشرات الآلاف من الأسرى العراقيين في عدة سجون سرية لم يسمح للصليب الأحمر بزيارتها لبشاعة أوضاعها، على سبيل المثال في معسكر(نينا الايراني) عزل الأسرى عن العالم الخارجي منذ توقف الحرب ولغاية عام 2002، وكان السجن سريا، ولم يسمح للصليب الأحمر بزيارة السجن إلا في عام 2002 عندما عقدت الصفقة مع الجانب الإيراني بمبادلتهم بعناصر الحرس الثوري والإستخبارات الذين أسروا في صفحة الغدر والخيانة في المحافظات الجنوبية. وكان الشهداء من الأسرى العراقيين يدفنوا في مقبرة أطلقوا عليها (مقبراة الغزاة البعثيين). تصوروا! حتى الموتى مشمولين في غلٌهم وحقدهم، سبحان الله!
ولم يحتفظ العراق إلا بأسير واحد فقط هو( حسين علي رضا لشكري) الذي أسقطت طائرته في السابع من أيلول عام 1980 في إشتباك جوي مع الطيار العراقي البطل عبد الستار البرزنجي، والسبب وراء الإحتفاط بلشكري لأنه يمثل دليل على إن نظام الملالي الحاكم في إيران هو الذي بدأ الحرب. وهذا الدليل الحي يفند الإدعاءات الإيرانية بأن العراق هو الذي بدأ الحرب. وقد أعاد العراق الطيار لشكري لإيران عام 1998 ولم يصرح الطيار بأن الحكومة العراقية قد تعاملت معه بعنف أو صورة سيئة بل على العكس، كان كبقية الأسرى موضع إهتمام ورعاية. وفي كل مناسبة ومنها الأعياد يحصل جميع الأسرى الإيرانيين على هدايا من القيادة السياسية وغالبا ما تكون ملابس جديدة. في حين كان الأسرى العراقيون يحصلون على وجبة دجاج مسموم أو فاقد الصلاحية في الأعياد.
لأن وزير حقوق الإنسان من أقزام الولي الفقيه وطائفي لحد النخاع، لذا كان يتجنب الإشارة إلى موضوع الأسرى قدر الإمكان، ولم تصدر الوزارة اية تصريحات تتعلق بأسرى الحرب العراقية الأيرانية، اللهم الا عندما نفى الناطق بإسم الوزارة (كامل أمين) ما تناقلته وسائل الإعلام من عودة أسرى عراقيين من إيران عبر أقليم كردستان. فعلق بأن الخبر لا أساس له من الصحة! علاوة على خبر آخر عن تبادل رفات (180) عسكري من الجانبين عبر منفذ الشلامجة، حسبما ذكره (مهدي التميمي) مدير مكتب حقوق الإنسان في البصرة. وقبلها سلم العراق رفات (96) إيرانيا مقابل رفات(12) عراقيا.
لا يستغرب المرء موقف الوزارة من موضوع الأسرى العراقيين، فهذه الوزارة مهمتها طمس جرائم الحكومة والأحزاب والميليشيات الموالية لولاية الفقيه، والسكوت تجاه قتل الآلاف من الأبرياء في التظاهرات السلمية، والإبتهاج بالقنابل الحارقة التي لا تزال حكومة العبادي تمطر بها أهل السنة إنها بحق (وزارة التفريط بحقوق الإنسان) ووزيرها السابق (محمد شياع السوداني) أحد مجرمي الحرب الذي يجب أن يمثل أمام المحاكم الدولية. لأن الذي يتستر على الجرائم لا يقل إجراما عن المجرم الحقيقي. وقد كُرمَ هذا الوزير الطائفي بوزارة العمل في حكومة حيدر العبادي!
لله درك يا إبن الرومي كأنك تصف حالنا:
رأيت الدهر يرفع كل وغدٍ … ويخفض كل ذي شيمٍ شريفه
كمثل البحر يغرق فيه حيٌ … ولا تنفك تطفو فيــــــه جيفـةُ
في الوقت الذي تسلمت إيران كافة أسراها وتبذل قصارى جهدها للبحث عن رفات القتلى داخل العراق، فإن الحكومة العراقية لا ترغب في فتح هذا الباب.
السؤال: هل يوجد لدينا من أسرى الحرب العراقية الإيرانية لحد الآن في إيران؟
نعم وبالآلاف! رسميا اعلنت الحكومة العراقية وجود اسرى عراقيين لدى ايران منذ الحرب التي انتهت قبل 24 عاما، وجاء الإعتراف الرسمي على لسان وزير حقوق الانسان السابق العضو في ائتلاف التحالف الوطني محمد شياع السوداني في لقاء مع قناة البغدادية العراقية، وقال ان هناك 198 اسيرا عراقيا فقط في سجون ايران لازالوا في اقفاص الاسر رغم تبادل الاسرى بين البلدين عام 1990 ولم يوضح الوزير الطائفي سبب بقاء هؤلاء الاسرى العراقيين الذي اغلب اعمارهم فوق الستين عاما! بالطبع الرقم المذكور لا يمثل عشر الأسرى الموجودين فعلا في المعتقلات الإيرانية، لكنه إعتراف رسمي وهذا هو المهم!
لو سألت أي أسير عراقي نفس السؤال، سيجيبك على الفور نعم يوجد الكثير من الأسرى لحد الآن في إيران، ويَعد لك بعضا من أسماء الأسرى الذين أسروا معه خلال المعارك، أو تعايشوا مع في معتقلات الأسرى، أو من خلال تنقلات الأسرى من معسكر لآخر.
أما السبب الذي يقف وراء إحتفاظ نظام الملالي بهؤلاء الأسرى المساكين؟ فذلك لأنه نظام دموي حاقد لا يعرف الإنسانية والدليل على ذلك رفضة تبادل الأسرى رغم مرور عقد أو عقدين من الزمان على أسر بعضهم. وربما يبغي إستخدامهم كورقة ضغط للمساومة على اللاجئين الإيرانيين في مخيم أشرف وسجن الحرية (ليبرتي). كما يخشى نظام الملالي أن يفتح بابا جديدا على فيلق بدر الذي كان يعذب هؤلاء الأسرى تعذيبا وحشيا، فهذا الفيلق هو الذراع العسكري للخامنئي في العراق.
من المؤسف أن أي مؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني لم تتولى هذه المسؤولية الإنسانية من خلال التحرك على الأسرى العائدين الى العراق، وجمع المعلومات منهم عن بقية الأسرى وتدوينهم في سجلات خاصة لمفاتحة الصليب الأحمر أو منظمات حقوق الإنسان العربية والدولية بشأنهم.
ومن المؤسف أيضا إن عوائل الأسرى والمفقودين لم يشكلوا ضغطا على الحكومة أو وزارة حقوق الإنسان ولو بتظاهرة واحدة ليلفتوا أنظار الرأي العام إلى هذه القضية الإنسانية. ومن المؤلم جدا أن ينتخب البعض هادي العامري ورئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية وهم يعرفون جيدا من قتل أسراهم ومن عذبهم.
من المؤسف حقا أن ننسى من لم ينسونا، ومازالت أعينهم الشاحبة وشفاههم اليابسة، تترقيب العودة لإحتضان أبنائهم وأحفادهم فيكحلوا عيونهم برؤياهم، ويتذقوا طعم الحنين للمرة الأخيرة وقد بلغت أعمارهم المحطة الأخيرة.
لقد حبسوا دموعهم عقودا! ألم يحن الوقت ليذرفوها؟ أم ستبقى محبوسة مثلهم لا تبلل تراب بلادهم، معظمهم بلغ الستين من العمر فأتركوهم على الأقل يلقون النظرة الأخيرة على وطنهم وأهلهم ويوارون الثرى في تربة أجداهدم.
كلمة للأخيرة للخامنئي وهو يستأذن بالرحيل إلى جهنم، أقول له لقد تعلمنا منك حكمة وهي (الشيطان سيد الطاغية وخادمه في الوقت نفسه)، ولكننا نتساءل: كيف ستمثل بين يدي الله ويدك مغموسة بدماء الأبرياء من شعبك وبقية الشعوب المبتلاة بك وبأقزامك في إيران والعراق وسوريا ولبنان واليمن والبحرين؟
إفعل حسنة واحدة ولو لمرة واحدة في عمرك الزائل، وإطلق سراح الأسرى العراقيين، لعلها تشفع لك في الآخرة. وإلا سيكون أجرك الإضافي بعون الله من مالك خازن النار.
من المؤسف ان موضوع الأسرى لم يُعطى حقه من البحث والاستقصاء والتحليل، ونأمل ان تعقب خطوتنا هذه خطوات أخرى من قبل مراكز البحث والدراسات، ومؤسسات المجتمع المدني والمنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان والأسرى، إضافة الى بقية الكتاب الافاضل. لابد أن يدلي كل من له معرفة بهذا الشأن بدلوه لأنها مسئولية شرعية ووطنية نتحمل الجميع مسئوليتها.
لكن الذين لهم علاقة بالموضوع مؤكد يتحملون الجزء الاكبر، وليعلموا ان السكوت عن موضوع أسراهم ومفقوديهم هو جريمة كبرى بحق الوطن والشعب وبحق النفس ايضا. وأعلموا إن فيلق بدر عنده المعلومات الكاملة حول الأسرى والمفقودين العراقيين في إيران. ولابد من كشف القناع عن محيا الحقيقة مهما كال الإنتظار.
في الختام أشكر الأخ عماد مهدي الذي نبهني وحفزني على كتابة هذا الموضوع المهم وله الفضل الأول والأخير، والله تعالى من وراء القصد.
علي الكاش