فاطمة ناعوت
طرحتُ على مدى الأسبوعين الماضيين حكاية الأطفال في إحدى المدارس الأمريكية الذين أرسلوا رسائل وأسئلةً صعبة إلى الله، وتساءلتُ هل الكبار الذين يسمحون لأنفسهم بأن يفكّروا خارج الصندوق الحديدي ويتساءلوا، أيًّا ما كان التفكير ومهما كان السؤال، هل هم أطفال لا جُناح عليهم مثل أولئك الأطفال الذين تجاسروا وحاوروا اللهَ، أم مجانين لا جناحَ عليهم أيضًا فلا تصحّ محاسبتهم لفُقدانهم الأهلية، أم كفّار، يستحقون الملاحقة بالقضايا والزجّ بهم في غياهب السجون، حتى يتوبَ الكفّارُ عن كفرهم وراء القضبان، أو ينفضوا عنهم جراثيم جنونهم، ويتخصلوا من بقايا طفولتهم التي سمحت لهم بالتفكير، ثم السؤال؟
لكن، مهلاً! هل صدقتم فعلا أن الدعوى القضائية المرفوعة ضدي سببها ذلك البوست البسيط على صفحتي بفيس بوك؟ وهل صدقتم أن تلك الدعوى القضائية غَيرةٌ على الدين كما زعم مَن قاضاني وهو لم يفتح كتابَ الله؛ بدليل إخفاقه في كتابة لفظ الجلالة بطريقة سليمة فيكتبها بالتاء المربوطة لا بالهاء؟! البوست كان ينتقد الوحشية التي تُذبَح بها الذبيحة في عيد الأضحى على غير ما أوصانا الرسولُ صلى الله عليه وسلم من حُسن الذبح والرحمة بالأضحية أثناء نحرها وعد جواز نحر أضحية أمام رفقائها. فقال الدعيُّ إنني أسخر من شعيرة الأضحية والفداء، وقد كذب. لو كان الأمر كذلك لغضِب المسيحيون من البوست ورفعوا دعاوى قضائية ضدي باعتباري سمحتُ لنفسي بمناقشة “الذبيحة” وهم يتفقون معنا نحن المسلمين في افتداء ابن سيدنا إبراهيم بذبحٍ سماوي، وإن اختلف اسمُ ذاك الابن؛ الذي عندنا هو النبي “إسماعيل” وعندهم هو النبي “إسحق”، عليهما وعلى أبيهما السلام. بل إن فكرة الذبيحة هي أساس العقيدة المسيحية، بل أخذت لديهم منحى أشدَّ خطورة؛ حيث الذبيح الأعظم في أدبياتهم لم يكن قربانًا من حيوان أو طير أو ثمر، بل كان السيد المسيح نفسه عليه السلام، الذي افتدى بني الإنسان ليبرئهم من الخطيئة الأولى، وفق معتقدهم، وتتحقق بصلبه قيمتان لا تجتمعان: العدل والرحمة. فلماذا لم يقاضِني مسيحيٌّ على بوست عنوانه: “كلُّ مذبحةٍ وأنتم بخير”؟ هل لأن المسيحي يؤمن أن الأنبياء أقوى من أن ندافع عنهم، لأنهم هم من يدافعون عنّا؟ هل لأنهم يؤمنون أن الله لا يحتاج مَن يحميه، فهو حامي الكون والبشر؟ هل لأن أحدًا منهم لا يزعم أن معه تفويضًا من السماء بمعاقبة الناس على معتقداتهم أو أفكارهم، على عكس ما فعل أسلافهم الكاثوليك في القرون الوسطى فخرّبوا العالم؟ هل لأنهم أكثرُ ذكاء وثقافةً ووعيًا وإيمانًا ممن رفع ضدي دعوى قضائية؟ كل ما سبق صحيح، لكن هنا سببًا آخر.
الأمر لا علاقة له بالذبيحة ولا بالشعيرة الإسلامية ولا بالرسل ولا بالطقس الديني ولا بالخروف ولا بالأديان. هذه قضية سياسية بسبب تاريخي الطويل الذي انتصرتُ فيه للعدل والمساواة ورفض العنصرية بين أبناء العقائد المختلفة في مصر. وهناك من يرفض أن تشيع هذه “الروح” في المجتمع. هناك من يرفض أن تسود قيمُ المحبة والعدل والمساواة والمواطَنة بين الناس في مصر. هناك من يودّون أن تتأكد الطائفية والعنصرية والتباغض العَقَدي ليحققوا هيمنتهم على البسطاء، تلك الهيمنة التي تتحول إلى أموال تُضخُّ في خزائنهم. لهذا يحاربون كلَّ من يحارب الطائفية. وكيف يتم هذا؟ بنسج الشائعات حوله: بأن يزعمون أنه تنزندق أو تهرطق أو تنصّر أو تشيّع أو ألحد أو كفر. ومن ثم رفع قضايا الحِسبة ضده ورميه بتهم مضحكة: تأجيج الطائفية، تكدير السِّلم العام، ازدراء الأديان. هنا تكتمل الكوميديا. مَن يحارب الطائفية، يغدو طائفيًّا!!! من ينادي بالسلام، يصبح مُكدّرًا للسِّلم العام!!! مَن ينادي باحترام كافة الأديان، يُمسي مُزدريًا للأديان!!!
أراك تبتسمُ عزيزي القارئ الآن. لكن، رجاءً ممنوع الضحك على التناقضات، فأنت في مصر. وهذا عينُ ما اكتشفه أبو الطيب المتنبي في القرن الرابع الهجري فسخر منّا قائلا:
“وكمْ ذاك بمصرَ من المُضحكات….. ولكنه ضحِكٌ كالبكا.”