في ظلّ الغياب الأميركي، تحوّلت روسيا إلى ما يشبه المرجعية في شأن كلّ ما له علاقة من قريب أو بعيد بسوريا. باتت قادرة على خرق وقف إطلاق النار من جانب واحد من دون أن يسألها أحد ما الذي تفعله في حلب، على سبيل المثال وليس الحصر.
كيف يمكن لدولة كبيرة، تعتبر نفسها قوّة عظمى تحارب الإرهاب، الاعتداء، عبر النظام السوري طبعا، على مدنيين في حلب وتدمير مستشفى على من فيه من مرضى وممرّضين وأطباء؟
هل حققت روسيا أهدافها في سوريا، خصوصا بعدما صارت تسمح لنفسها بتسمية من هو المعارض المقبول ومن هو المعارض المرفوض، من هو الإرهابي ومن هو غير الإرهابي؟
فوق ذلك كلّه أصبح في إمكان روسيا أن تحدّد من جانب واحد موعدا لجولة المفاوضات المقبلة بين السوريين، فيما ممثّل الأمين العام للأمم المتحدة ستيفان دي ميستورا يتفرّج وفيما بان كي مون “قلق”.
على الصعيد السوري، حقّقت روسيا الكثير في المدى القصير. في المدى الطويل، ليس معروفا ما الذي يمكن أن يحصل، خصوصا أن الأكثرية الساحقة من أبناء الشعب السوري لا يمكن أن تنسى مشاركتها في الحرب التي يتعرّض لها شعب بكامله.
لم يعد في الإمكان البحث في مستقبل سوريا بمعزل عن روسيا، خصوصا في ضوء ثلاثة تطورات في غاية الأهمية. حصلت هذه التطورات على الصعيد الإيراني والأميركي والإسرائيلي.
اقتنعت إيران بأنّ سقوط بشّار الأسد نهائيا بات متوقّفا على موسكو. كان عليها الاستنجاد بها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من بقايا النظام السوري الأقلّوي الذي يعني لها الكثير.
لولا التدخل العسكري الروسي، لما كان رئيس النظام السوري لا يزال في دمشق، ولما كان قادرا على إجراء انتخابات من النوع الصوري لا هدف لها سوى إثبات أنّه ما زال حيّا يرزق.
أما أميركيا، فقد وجدت إدارة باراك أوباما أن أكثر ما يناسبها هو التفرّج على عملية تفتيت سوريا. ولذلك تركت لروسيا التصرّف بالطريقة التي تراها مناسبة من منطلق أنّ سوريا ليست همّا أميركيا وأن إبادة شعب وتهجيره من أرضه مسألة فيها نظر.
ترفض إدارة أوباما إدراك بديهيات من نوع أن لا حرب ناجحة على “داعش” وعلى الإرهاب عموما من دون الانتهاء من النظام السوري الذي يجسّد الإرهاب. اقتات هذا النظام من الإرهاب منذ نصف قرن، أي منذ كان حافظ الأسد لا يزال وزيرا للدفاع.
على الصعيد الاسرائيلي، يتأكّد كلّ يوم عمق التنسيق بين فلاديمير بوتين وبنيامين نتانياهو في شأن كلّ ما له علاقة بسوريا ومستقبلها. لا وجود لأيّ اعتراض روسي من أيّ نوع كان على اعتبار “بيبي” هضبة الجولان السورية أرضا اسرائيلية “إلى الأبد”.
ثمّة واقع لم يعد في الإمكان تجاوزه. يتمثل هذا الواقع في أنّ سوريا التي عرفناها لم تعد قائمة. السؤال الآن ما الذي تسعى موسكو إلى تحقيقه من أجل ضمان مصالحها في المدى البعيد، بعدما ضمنت هذه المصالح في المدى القصير؟
الجواب أنّ الثمن لضمان هذه المصالح تنسيق طويل المدى مع إسرائيل يتناول بشكل خاص الجولان. كان الجولان بوليصة تأمين للنظام السوري وذلك منذ استيلاء إسرائيل عليه في العام 1967 في ظروف، أقلّ ما يمكن أن توصف به، أنّها مريبة.
أفشل حافظ الأسد كلّ محاولة لاستعادة الجولان وذلك من أجل المحافظة على النظام من جهة وتوريث سوريا إلى بشّار الأسد من جهة أخرى. تاجر النظام السوري طويلا بما سمّي “وديعة رابين”. لم يكن النظام يريد يوما استعادة الجولان. وهذا ما كانت تعرفه إسرائيل التي لعبت لعبته.
يروي مسؤول أميركي سابق أنّه في أثناء المفاوضات غير المباشرة بين الأسد الأب وإسحق رابين بواسطة وارن كريستوفر، وزير الخارجية الأميركي وقتذاك، اتفق الجانبان على إعادة كلّ الجولان المحتلّ إلى سوريا. تضمّنت الصفقة المعروضة ترتيبات أمنية وسياسية متفقا عليها تشمل تبادل السفراء.
يؤكد هذا المسؤول الأميركي الذي رافق المفاوضات عن كثب أن الأسد اختلق في نهاية المطاف عذرا كي تفشل المفاوضات، قائلا إن هناك علاقات ديبلوماسية بين سوريا ودول عدة، لكنّ لا سفارات لسوريا في هذه الدول، كما لا سفارات لهذه الدول في سوريا. أعطى مثلا على ذلك دولة كازاخستان. ولمّا نقل كريستوفر موقف الأسد إلى رابين، طلب منه الأخير سؤال الأسد الأب لماذا لا يستعيد الجولان من كازاخستان؟!
كان رأي المسؤول الأميركي أن حافظ الأسد لم يكن يريد شيئا باستثناء بقاء “وديعة رابين” مجرد وديعة تصلح منطلقا للدخول في مساومات سياسية لا نهاية لها. لم يرد يوما استعادة الجولان.
في غضون ذلك، كان الأسد الأب يدفع بوجوه سنّية للتفاوض مع الاسرائيليين على نحو مباشر. وهذا ما حصل مع فاروق الشرع بصفة كونه وزيرا للخارجية وحكمت الشهابي رئيس الأركان. كان مهمّا في كلّ الوقت وضع شخصيات سنّية، وليس علويّة، في الواجهة متى يتعلّق الأمر بإسرائيل. كان مهمّا للأسد الأب إظهار العلويين بأنّهم أولئك الذين يرفضون إسرائيل ويوزّعون شهادات في الوطنية في كلّ الاتجاهات، فيما السنّة هم “الخونة”… أما بقاء الجولان تحت الاحتلال، فهذا أمر آخر له حسابات مختلفة!
من الواضح أن روسيا أخذت علما بانتهاء صلاحية بوليصة التأمين الاسرائيلية للنظام، بما في ذلك للعبة التي كان يمارسها مع إسرائيل والمتمثلة في إبقاء جنوب لبنان جرحا ينزف، تماما كما تريد إسرائيل التي لم تعترض يوما على الوجود الفلسطيني المسلّح حتّى العام 1982. هناك الآن معطيات جديدة تقوم على تقاسم روسيا وإسرائيل مناطق النفوذ في سوريا مع مراعاة لإيران التي تعطي أولوية لبقاء بشّار الأسد في دمشق، وإن بشكل صوري، وذلك لأسباب ذات طابع مذهبي قبل أيّ شيء آخر.
على ماذا ستستقر ترتيبات المرحلة المقبلة في سوريا وكيف يمكن لروسيا تقديم الضمانات المطلوبة إسرائيليا في حال إصرار إيران على متابعة نقل صواريخ من نوع معيّن إلى “حزب الله”؟
إلى الآن، استطاع الثلاثي الروسي ـ الإسرائيلي ـ الإيراني إيجاد صيغة للتعايش بدليل أن إسرائيل تضرب في الداخل السوري متى تجد ذلك مناسبا لها في ظلّ صمت إيراني. ولكن هل صيغة التعايش هذه قابلة للحياة طويلا، خصوصا أن روسيا باتت تعتبر أن بوليصة التأمين الجديدة للنظام هي في التخلي نهائيا عن الجولان وقبوله بمنطقة كردية مستقلة في الشمال؟
ثمّة عاملان يلعبان ضد استمرار صيغة التعايش هذه طويلا. الأول أن تركيا لا يمكن أن تقبل بكيان كردي في شمال سوريا وتعتبر ذلك تهديدا مباشرا لأمنها. أمّا العامل الثاني فعائد إلى أن الشعب السوري لم يقم بثورة حقيقية من أجل عيون روسيا وإسرائيل وإيران وتركيا. لا يزال هذا الشعب، على الرغم من الحال المترهلة للمعارضة، قادرا على قول كلمته. كلمته الأولى والأخيرة أن النظام انتهى وأن لا مجال لأيّ حلّ أو تسوية من أيّ نوع ما دام بشّار الأسد في دمشق.
لا شكّ أنّ روسيا خرجت رابحة في المدى القصير. لديها في سوريا حليفان قويّان هما إسرائيل وإيران، ولكن ما العمل في المدى الطويل عندما ستكتشف عمق الرفض الشعبي للنظام؟ هل تكتفي بمنطقة ساحلية تدير منها الحروب الداخلية التي تبدو سوريا مقبلة عليها، فيما إسرائيل تتفرّج على المشهد الدموي المستمرّ. إنّه مشهد تورّطت فيه إيران مباشرة وعبر الميليشيات المذهبية التابعة لها إلى ما فوق رأسها. تتفرّج إسرائيل على فصول المأساة السورية من مكان مرتفع اسمه الجولان..
* نقلا عن “العرب”