في الأيام الأخيرة، أعلنت ثلاث صحف لبنانية عن معاناتها من أزمة مالية، وأنها تريد تخفيض عدد موظفيها للمرة الثانية أو الثالثة. وصرحت صحيفة «السفير» أخيراً أنّ الأمر ليس قاصراً على تخفيض أعداد الموظفين، بل إنها تريد الإقفال نهائياً. وقد ظنّ عديدون منا أنه التكتيك المعتاد من صاحب السفير منذ حوالى عشرين عاماً، لكي يحظى بالتضامن والدعم، لكنّ الشكّ انقطع باليقين عندما اتصلوا بعدد من الكُتّاب للإسهام في عدد الجريدة الوداعي!
لماذا تتجه الصحف اللبنانية الرئيسية بعد الصغيرة للإقفال؟ يحصل ذلك لعدة أسباب. فهناك حوالى عشرين مطبوعة صحفية لبنانية يومية، توزع جميعاً ما لا يزيد على الثلاثين ألف نسخة في اليوم، بما فيها الصحف الرئيسية مثل «السفير» و«النهار»! ويرجع ذلك بالطبع إلى الكساد العالمي الذي تُعاني منه المطبوعات الورقية، لمصلحة الفضائيات، والأفظع لمصلحة وسائل الاتصال التي لا تكلف شيئاً، والتي يمكن المتابعة من خلالها عبر اليوم والليلة دونما حاجة لانتظار حتى أخبار التلفزيون. وهذا فضلاً على المجالات المتعددة التي يمكن متابعتها على وسائل الاتصال، ولا تستطيع الصحف تغطيتها.
لكنْ، هناك أسباب خاصة أو متعلقة بلبنان؛ أولها أنّ مداخيل وموارد الصحف كانت تأتي من الداخل اللبناني، بسبب خدمتها للحياة السياسية اللبنانية. فأكثر الصحف محسوبة أو كانت محسوبة على طرف سياسي أو أكثر، وهي تتلقى دعماً منه، مثل «السفير» و«الأخبار» اللتين تساعدهما في العقد الأخير جهات إيرانية وسورية و«حزب الله». وكان صاحب «السفير» منذ صدروها عام 1974، قد سلك مسالك شتّى للإبقاء على وضْعه ووضع مطبوعته، بدءاً بالعقيد القذافي، ومروراً برفيق الحريري، ووصولاً إلى «حزب الله» وأنصاره بعد عام 2005. وهذا هو التكتيك الأول. أما التكتيك الثاني فهو أنه في كل فترة كانت «السفير» تعلن عن بيع رُبع أو ثلث أسُهم شركتها لضخّ مال جديد فيها، ومن ذلك ما حصل قبل خمس سنوات عندما أُعلن عن شراء متمول سوري كبير أسهماً كثيرة في الجريدة. وقد حصل ذلك مراراً مع جريدة «النهار»، إذ استثمر فيها الوليد بن طلال والحريري وآخرون. والشائع أيضاً أنّ جريدة «الأخبار» الشديدة العصبية لـ«حزب الله» أُنشئت ودُعمت بهذه الطريقة، والداعمون لبنانيون وعرب من أنصار إيران والحزب.
أما المورد الثاني للصحف فكان الإعلانات. وقد ضعُفت الإعلانات إلى حدود العدم، لأنّ الإعلان في التلفزيونات أفضل بما لا يقاس. كما أنّ الأزمة الاقتصادية طاحنة في لبنان، والكساد سائد بإعلان وبدون إعلان!
والمورد الثالث كان بلدان الخليج العربي، التي كانت تستخدم الصحف اللبنانية للدعاية والإعلان، لشخصياتها وسياساتها، بالنظر لموقع لبنان وصحفه في المنطقة والعالم. بل إن الأجيال الأولى من الصحف الخليجية، وقبل ذلك بقرن ونيّف الصحف المصرية، إنما أنشأها لبنانيون. ومنذ حوالى العقد صارت لدى الدول الخليجية فضائيات وصحف أفضل، كما أن الطابع المحلي غلب على الصحف اللبنانية، وما عادت مفيدة لأحد في الخارج العربي، كما أنها ما عادت تستطيع الابتزاز. وقد مضت علينا سنوات منذ حرب عام 2006 ما مضى يومٌ منها دون شتيمة أو شتائم للخليج في صحف وفضائيات «الممانعة» المتأيرنة!
إنّ مصائر الإعلام الورقي اللبناني مأساوية. فهو أعرق قطاع صحفي عربي، إذ يعود لمنتصف القرن التاسع عشر. ولا يتقدم عليه غير جريدة «الوقائع» المصرية التي أنشاها محمد علي بالقاهرة، لتنقل أخبار الحكومة. وهكذا يصبح مصير القطاع الصحفي اللبناني مثل مصير الحِرَف اليدوية ومنتجاتها المتقنة والجميلة، والتي قضت عليها الحداثة أيضاً. والواقع أنّ بعض الصحفيين الشباب والكهول، طوّروا قدراتهم في العقد الأخير، وانتقلوا إلى الفضائيات، وبخاصة إذا كانوا إناثاً مقبولي الشكل. لكنْ أكثر من نصف صحفيي الصحف الورقية في معظم الدول العربية، سيذهبون للتقاعد، بما في ذلك الصحف المصرية الكبرى، لتراجع الموارد والدخول وتراجع الإعلانات، وتراجع موقع مصر، وصيرورة الصحف شأناً محلياً!
قلت لسياسي مصري كبير: أليس محزناً ما يصيب الصحف؟ فقال: لماذا هو محزن؟ ألا ترى أنه حصل في شتى أنحاء العالم حتى في «تايم» و«نيوزويك»: ومن ذا الذي يا عَزُّ لا يتغير!
*نقلا عن صحيفة “الاتحاد” الإماراتية.