عادل الطريفي: الشرق الاوسط
في أوائل العام الماضي أصدر جيمس روبنسون ودارون أشيموجلو، وهما أكاديميان أميركيان، كتاباً بعنوان «لماذا تفشل الأمم: أصول السلطة والازدهار والفقر؟» (كروان هاوس 2012)، وحظي الكتاب بانتشار واسع، وتقريظا من كبريات الصحف الأوروبية والأميركية، وكان من بين الكتب الأكثر مبيعاً في السوق الأميركية.
لكن هذا النجاح التجاري للكتاب، اصطدم فجأة بردود نقدية لأسماء بارزة في المجالين الأكاديمي والاقتصادي. فقد كتب بيل غيتس – مؤسس ميكروسوفت – منتقداً المنهج العلمي في الكتاب، الذي افتقر إلى تعريفات دقيقة، وأمثلة صحيحة – كما قال – ولكن ما أغضب غيتس، فيما يبدو، هو مقارنته بالملياردير المكسيكي كارلوس سليم، وقد عدّ تلك المقارنة مجحفة بحقه، فميكروسوفت لم تمارس احتكارا في تاريخها، ولا يمكن مقارنتها بشركة «تلميكس» التي تسيطر على 90 في المائة من سوق الهاتف الثابت في المكسيك.
كما انتقد غيتس تناول الكاتبين لسليم بوصفه «نخبة» منتفعة من السلطة، وعدّ تلك الأوصاف غير منصفة من وجهة نظره.
الردود المؤيدة والمنتقدة للكتاب توالت خلال العام، وكان من أبرزها ما كتبه جيفري ساكس، الاقتصادي المعروف في جامعة كولومبيا، والذي وصف حجج الكتاب وأمثلته بالبسيطة، والمضللة، والخاطئة في الكثير من الأحيان («الحكم، الجغرافيا، والنمو: روافد التنمية الاقتصادية». فورن أفيرز، سبتمبر/ أكتوبر 2012).
رد فعل المؤلفين هو أن غيتس «جاهل» في الشأن الأكاديمي، فيما ساكس غاضب، لأنه يدحض نظريته حول نهاية «نهاية الفقر». هل لهذا الجدل أهمية؟ وما علاقته بالمنطقة العربية؟
قد يبدو النقاش أعلاه «نخبويا»، ولكنه في الحقيقة يعبّر عما يجري حول العالم اليوم من أزمات اقتصادية خانقة تعصف في بلدان أوروبية وآسيوية على حد سواء، بغض النظر عن نظام الحكم أو النموذج الاقتصادي المتبع. ولكن ليس هذا فحسب ما يجعل هذا الجدل مهماً للمنطقة العربية، بل لأن المؤلفين يستشهدان بما حدث في تونس ومصر على صحة ما يطرحانه في الكتاب، ويراهنان على أن «الحرية» التي جاء بها «الربيع» ستحقق بالضرورة الرفاه لتلك الدول؟!
فكرة الكتاب الرئيسة هي أن الازدهار والنمو الاقتصادي يعتمدان على وجود مؤسسات مشاركة سياسية (جامعة)، تقود بدورها إلى نشوء نظام سياسي تعددي، يحمي الحقوق الفردية. وهذه، بدورها، تؤدي إلى قيام مؤسسات اقتصادية تؤمن الملكية الخاصة وتشجع الاستثمار، وتعطي الفرصة للجميع. النتيجة على المدى الطويل، هي زيادة الدخل وتحسين رفاهية الإنسان.
ووفقا لروبنسون وأشيموجلو، فإن النظريات التي تعزو فشل الأمم والدول إلى أسباب ثقافية أو جغرافية أو غيرها من العوامل، هي في الحقيقة تعبر عن أعراض وظواهر مصاحبة للفشل، ولكنها لا تعبر عن السبب الذي من ورائه تفشل البلدان تنموياً واقتصادياً.
ويرى المؤلفان أن هناك شرطين أساسيين للازدهار الاقتصادي: أولاً، الانقلاب على النخب السياسية المنتفعة التي تمارس احتكار الفرص الاقتصادية، وتعطل المنافسة الحرة. ثانياً، الحرية والتوزيع العادل للحقوق السياسية هي الضمانة الوحيدة للاستقرار الأمني والاجتماعي اللذين بدورهما يحققان الرفاه الاقتصادي. ويطرح المؤلفان نماذج عديدة للدلالة على ما يذهبان إليه، ولعل أبرز تلك الأمثلة هي مصر قبل 25 يناير، فهي بحسب المؤلفين ضحية لاستبداد نخبة اجتماعية صغيرة واستئثارها بالفرص السياسية والاقتصادية تحت قيادة ديكتاتور عسكري مسنّ. كانت المؤسسات الاشتراكية، وسياساتها (الشعبوية) كتأميم القطاع الخاص، وتوزيع الأراضي زمن عبد الناصر – كما يرى المؤلفان – توفر توازناً مؤسساتياً إلى درجة ما، ولكن الانفتاح خلال عصر السادات، والحد من الحرية السياسية في العقود التي تلته، وعمليات التخصيص التي أفرغت مؤسسات القطاع العام، قضت على المشاركة بين السلطة والنخبة، ولذا حدث الصدام. الغريب أن المؤلفين يتهمان شخصيات تجارية كبيرة بالانتفاع من النظام مثل عائلة ساويرس – المعروفة – على الرغم من كون أحد أبنائها نجيب ساويرس أحد المتحمسين للمظاهرات آنذاك. أما فيما يتعلق بدول «الربيع العربي» فيرى المؤلفان أن من أبرز القواسم المشتركة بين مصر وتونس وليبيا وسوريا، فهناك نخبة سياسية تستغل نفوذها لتوزيع الموارد الاقتصادية لصالحها، وأن الحرمان لعقود، تفجّر خلال الأزمة الاقتصادية العالمية. ولكن هل غياب مؤسسات الشراكة هي سبب الفقر والغنى؟
كل المؤشرات تدل على العكس، وهذا ليس دفاعا عن الأنظمة التي سقطت أو تلك التي ستسقط، ولكن لأن النماذج الراهنة تدحض هذه الحجة.
الهند تملك ديمقراطية عريقة، ومؤسسات على النموذج الاشتراكي الشعبوي، إذ تنشط النقابات العمالية، فيما الصين دولة غير ديمقراطية وتدار بحزب تحكمه نخبة غنية ومسيطرة، وفي الحالتين فإن حجم النمو الاقتصادي للصين خلال العقود الثلاثة الماضية 9.8 في المائة، فيما لم تتجاوز الهند حاجز 6 في المائة، وفيما يخص نمو دخل الفرد وانخفاض معدل الفقر، فإن التجربة الصينية تتفوق على نظيرتها الهندية، إذ هناك ضعف عدد الفقراء في الهند مقارنة بالصين.
عربياً، حجة روبينسون وأشيموجلو قد ترضي اليسار الليبرالي، الذي يراهن على الحريات الفردية، ولكن الواقع يكشف أن الحريات الفردية والعامة قد تراجعت في كل بلدان العربي بلا استثناء. صحيح أن الانتخابات أجريت بشكل شبه متساو بين المتسابقين، ولكن السلطة التي كانت متركزة في يد نخبة عسكرية، انتقلت لتتركز في نخب دينية – زعامات وأحزاب أصولوية – فازت بشكل ديمقراطي. أيضاً، من الصعب القول إن ليبيا التي لم تكن تملك أية مؤسسات، فشلت لذات الأسباب التي فشلت فيها مصر التي تمتلك على الأقل، الحد الأدنى من العمل المؤسساتي المستقل.
برأيي أن عنصر الضعف الرئيس في حجج اليسار الليبرالي – ومن ضمنها هذا الكتاب – التي ترتكز على فهم شكلي للديمقراطية وللحقوق المدنية، هو أن هذه الرؤى لا ترى النظم المعقدة للأفكار، ولا الخصوصيات الثقافية والتاريخية للمجتمعات، فهي تفترض أن كل من رفع راية «الحريات» أو طالب «بالانتخابات الديمقراطية» في بلد ما، يجب إنصافه والوقوف إلى جانبه بإزاء النخب الحاكمة، متناسين أن الصراع بين الجماعات والأحزاب والطوائف يعكس في صورته رواسب دينية وتاريخية، لا علاقة لها بوجود مؤسسات ديمقراطية، أو قيام انتخابات دورية.
مشكلة اليسار الليبرالي الغربي والمتأثرين به في المنطقة العربية، هو عدم فهمهم لـ«القوة»، أو قل سوء فهمهم لها، اذ يفترضون أن القوة أداة محايدة يستغلها أشرار.
المسألة أعقد من ذلك بكثير. العراق مثلاً يطوي عشرة أعوام على إسقاط نظام البعث السيئ الذكر، وقد أقيمت انتخابات دورية، ومؤسسات دستورية ديمقراطية، ولكن يمكن أن يقال إن العراق اليوم بلد ديمقراطي، لأن المسميات والآليات الانتخابية، لا تصنع بالضرورة أناسا ديمقراطيين. مشكلة اليسار الليبرالي أنه يفترض أن النموذج الديمقراطي الغربي هو المعيار الوحيد لنجاح الرفاه. ولكن من قال أن دول «الربيع العربي» فعلا تريد النموذج الغربي بشقه الثقافي والقيمي، ثم إن الحريات التي يفترض أن تصان قد لا تتحقق فعلا ونماذج ارتداد الحريات المدنية في دول «الربيع» دليل على ذلك. المؤسسات أمر مهم وحيوي، ولكنها وحدها لا تصنع الفرق.
وإجمالا يمكن أن نقول بوضوح، إن الدول العربية وغيرها، تفشل لأسباب متعددة ومتداخلة، وفي الوقت نفسه معقدة تشمل الجوانب الثقافية والتاريخية والاقتصادية، وحتى الجغرافية، سواء أكان ذلك في وجود المؤسسات أم غيابها!