خرجت الولايات المتحدة من الحرب العالمية الثانية وهي أقوى قوة في العالم. بأي معنى؟ بمعنى أنها أغنى دولة في العالم. لماذا أغنى دولة في العالم؟ لأن الحرب كلها جرت خارج أراضيها. دمّر القتال اليابان وألمانيا وفرنسا وبريطانيا، وسائر الحلفاء والأعداء، وبقيت أميركا بلا خراب وبلا مجاعات وبلا نساء يبعن أنفسهن في الشوارع لقاء وجبة أو علبة سجائر.
وأقامت واشنطن، التي لم تُمس، «مشروع مارشال» لمساعدة الدول المنهوكة في أوروبا على النهوض من جديد وإعادة تعمير خرائبها. وعاشت كل هذه الدول على الإعاشة والتقنين والقلّة واشتهاء السكر في الشاي والملح في الخبز. والشر كان واحدًا: بلاد وصلتها الحرب وبلاد لم تصلها. انتصار أميركا الأهم لم يكن في إلحاق الهزيمة بجيوش المحور. فالسوفيات أيضا ألحقوا الهزيمة بها، وكانوا أول من وصل إلى برلين، حيث انتحر هتلر قبل أن يبلغوا قبوه، لكن الحرب كانت قد دمرت مدنهم وأحرقت حقولهم وأوقفت مصانعهم ونشرت الفقر والجوع.
الحرب تفتك في سوريا فتكًا. يجيئها المقاتلون من روسيا والشيشان وتونس وأفغانستان والعراق ولبنان، لكن الدمار الكبير هو في عمرانها وديارها ونفوس أهلها. الثأر والانتقام والمرارة هي في قلوب أهلها. هذا ما عانى منه الأوروبيون بعد الحرب، ولم تعرفه الولايات المتحدة. المحاكمات، الحقيقي منها والمزيف والصوري والحاقد والظالم، أقيمت في أوروبا، هي وسجونها، وليس في أميركا، التي كانت تزدهر فيها السينما ويصلها ملايين المهاجرين، وتزداد مكانتها ارتفاعًا كأهم وأغنى دولة في العالم.
ذلك هو الفارق الكبير في الحرب: الهدم أو النجاة.. الركام أو البناء. قرار مجلس الأمن حول سوريا لا يأمر بالوقف الفوري للهدم والقتل. قرار ينقل المسألة من مؤتمر إلى آخر، ومن مدينة أوروبية هانئة إلى أخرى. لكن فيينا، بعكس جنيف، تعرف جيدًا ما معنى الحرب. فيينا، أم الجماليات المعمارية، تعرف تمامًا ماذا يتطلب إعادة رفع قنطرة أو ترميم عتبة أو تصليح نافذة.
حرب مدمرة خاضها الكثير من الغرباء في مدن سوريا. دمروا شوارع لا يعرفون تاريخها، ومنازل لا يعهدون روائح حكاياتها، وسرقوا آثارًا حافظت عليها الشمس والغبار أكثر من توحشهم. المشكلة الكبرى في سوريا ستكون ما بعد الحرب، تمامًا مثل أوروبا. سوف تضيع المنازل، وتختفي الشوارع، وترتفع أقواس المرارة، ويتفاقم غياب القانون، ويزيد خبث القلة ولؤم العوز والفاقة. لكن كل ذلك سوف يكون أفضل من رعب اليوم. مهما كان السلام مشوّهًا، يظل أجمل من وجه الحرب.
* نقلا عن “الشرق الاوسط”