الشرق الاوسط
عندما لم تكن وزارة الثقافة العراقية منشغلة بمهامها الأساسية، أي أعمال وزارتي الداخلية والدفاع وحرس الشواطئ، كانت تنصرف أحيانا إلى مهام لائقة بالتسمية. مهرجان المربد ليس بينها، لأنه كان من اختصاص الأمن الخارجي والحرس الجمهوري. لكن في أوقات الفراغ انصرفت الوزارة إلى إحياء شيء من صورة العراق الحضارية ولو لم يتضمن ذلك إشادات بدور السيد الرئيس. منها على سبيل المثال، المتحف العظيم الذي دمرته عسكرية جورج بوش الابن، في حين أن جورج بوش الأب رفض الدخول حتى إلى أطراف بغداد. ومنها إعادة إنشاء مدينة بابل. وتولى بعض رجال الوزارة – في صوت واحد – الترويج لملحمة غلغامش، مما أدى إلى نتائج عكسية. فقد طغت صورة الرجال، ورجالهم في سوريا ولبنان والأردن والكويت، على صورة غلغامش المسكين.
كان شتات الفنانين والشعراء والأدباء العراقيين يملأ العالم، فقررت الوزارة أن تركز على من بقي صامدا، مقيما غير منفي. وكان من أبرز هؤلاء الموسيقي منير بشير، صاحب أرق عود منذ مواطنه زرياب. ومثله كان مرهفا، متعدد الآفاق. لم تكن الموسيقى عنده فقط التحديث في حركة الأوتار، ومحاكاة أقصى طاقتها على السحر والتنوع، بل كانت أيضا أو خصوصا، معرفة ينابيعها وتاريخها وبداياتها. وعلى نحو ما، كان منير بشير، مثل الدكتور وليد غلمية، رئيس معهد الموسيقى الوطني في لبنان، عالما بقدر ما كان فنانا. لم يبدع وليد غلمية كما أبدع بشير أو الرحابنة أو توفيق الباشا أو زكي ناصيف، لأنه ظل في طبقة الكلاسيكيين المحدودة للجماهير. أما بشير فكما انفرد في العزف على العود، انفرد عازفا وتفرد باحثا في تاريخ الموسيقى وألوانها.
كان منير بشير يعيد كل شيء إلى العود. إنه أبو كل الآلات الموسيقية. ولد في العراق قبل آلاف السنين، وحمله المسلمون في الفتوحات الأولى إلى الهند، ثم نقلوه إلى الأندلس، ومنها إلى بقية أوروبا. من نقله إلى الأندلس؟ طبعا زرياب الذي سوف يضع ما عرفناه بالموشحات الأندلسية. وما هو أجمل ما في الألحان؟ المقام العراقي، أغاني. (راجع: وتر يبحث عن أصالة، دار الحوار الجديد). و«المقام»، عيني، يعني الإجلال والوقوف بشموخ «وقد سمي كذلك لأنه قمة الألحان الحضارية. والمقام مقامان، الكبير، وبه يغنى الشعر الفصيح، والصغير، ويغنى به الشعر العراقي العامي».
عالم من تاريخ الموسيقى كان منير بشير. إلى جانب المقام، يقول، يغني العراقيون «الركباني». وهو الحداء الذي يرافق سير الإبل. «والحداء هو أقدم لحن في تاريخ العرب وأبو المقامات ومشتقاتها». وهناك شيء يدعى «البوذية»، لا بد أن العراقيين يعرفونه، لكن ما لم نكن نعرفه هو أنه أبو المواويل المعروفة في لبنان مثل «الميجانا» و«أبو الزلف».
لم يترك لنا المؤرخ الموسيقي الراحل أي شيء حتى «أبو الزلف.. عيني يا موليا». ولا شرح لنا لماذا الآلة الأولى في الموسيقى العربية هي الحزن. هل لأنها ولدت في العراق؟