لا أريد ان أطيل الجدل في هذا الموضوع، لأنه يحتاج الى مساحة تتعدى مقالة صحافية، لكني ومنذ العام 1999 وعند أول لقاء لي بعربية فلسطينية تحمل الجواز الاسرائيلي، ويعتمل في ضميري ووجداني معنى المقاطعة والتطبيع تجاه فلسطين والقدس وتجاه من نطلق عليهم عرب 48 التسمية التي يرفضونها.
هذا ما كتب عنه مروان دويري في هذه الصفحة في نيسان عام 2012 قائلاً: “يسموننا فلسطينيي الـ48 وفي هذه التسمية تجنّ واختزال لتجربة صمود وبقاء. هل يوجد شعب يعرف بتاريخ نكبته؟ نحن نعتبر أنفسنا “فلسطينيي الوطن” لأننا بقينا في وطننا رغم النكبة”.
نقاطعهم وهم الفلسطينيون الوحيدون الذين حافظوا على الدليل والبرهان القاطعين بأن هذه الأرض لم تكن فارغة من دون شعب، وهم الذين شكلوا المقاومة الفعلية عبر مجرد البقاء وعبر المقاومة بالحيلة تارة وبالفعل تارة أخرى. وهذه المسألة طرحت بحدة في مؤتمر قاسم امين في القاهرة عام 1999، حيث كانت قد دُعِيَتْ باحثة فلسطينية عربية اسرائيلية الى المؤتمر وتعالت اصوات تتهجم على المجلس الثقافي الاعلى ورئيسه جابر عصفور وتندد بدعوته “اسرائيليين”!! وتمت الاشارة في هذا السياق الى المقاطعة والى ضرورة التمسك بها.
لقد عبّر مقال دويري بامتياز عن شعورهم بالتمييز ضدهم: “بعد أن نشرت جامعة كولومبيا كتابي عام 2006 عن العلاج النفسي، بادر بعض الدول العربية إلى دعوتي لإدارة ورشة عمل للاختصاصيين والأطباء النفسيين. وحين أوضحت أنني فلسطيني أسكن إسرائيل وأحمل جواز سفر إسرائيليا تراجع الداعون بحجة أنهم ودولهم يقاطعون إسرائيل… إنها سخرية القدر أن تعاملنا إسرائيل على أننا عرب وفلسطينيون بالرغم من مواطنتنا الإسرائيلية، بينما يعتبرنا إخواننا العرب “إسرائيليين” بالرغم من تمسكنا في أحلك الأوقات بهويتنا القومية والثقافية وبمواقفنا الوطنية على مدار عقود وفي عقر دار إسرائيل”.
هذا الكلام هو لمناسبة الزيارة التي يزمع البطريرك الراعي القيام بها الى القدس، عاصمة المسلمين والمسيحيين وقبلتهم؛ حيث يُستخدم المنطق نفسه والحجج نفسها.
وعاينت مرات عدة كيف يتم التعامل مع الفلسطيني حامل جواز السفر الاسرائيلي في الاردن المتهم بالتطبيع الفائض، فالشرطي او الموظف الاردني عند مداخل المدن الأثرية يتعامل معه كأجنبي بالرغم من اسمه العربي الواضح ومن تأكيده أنه فلسطيني، فيتكلم معه بطريقة فظة وكأنه رسول نتنياهو الشخصي الى البتراء او غيرها، ويجعله يدفع مبلغاً كبيراً لدخول المعلم الأثري كالأجنبي تماماً ، الأمر الذي يعفى منه المواطنون العرب.
وهؤلاء الاسرائيليون الفلسطينيون ممنوعون من زيارة أي بلد عربي لا يقيم علاقات ديبلوماسية مع اسرائيل بل يمكن ان يتعرضوا للمساءلة ايضاً والاتهام من قبل السلطات الاسرائيلية نفسها. كما حصل اخيراً مع الصحافي الفلسطيني مجد كيال الذي شارك بمؤتمر أقامته جريدة “السفير” في الشهر الماضي. وقد أشارت “النهار” الى الأمر في عددها الصادر بتاريخ 18 من نيسان الماضي. وقد علق الصحافي الاسرائيلي في “هآرتس” تسيفي برئيل في التاريخ نفسه ساخراً من السلطات الاسرائيلية في مقال بعنوان “أعدوا حجرة الاعتقال”: “الصحافيون الاسرائيليون الذين يزورون دول العدو لا يعتقلون أما الصحافي العربي الاسرائيلي فهو متهم مسبقاً”.
غريب هذا الاتفاق الضمني مع الدولة التي نرفع العداء تجاهها!! لقد اعتدنا على اتهام كل من يستخدم حجة عقلية او سياسية يكون الاسرائيلي قد استعملها بالخيانة العظمى، فكيف نمنع من زيارة ارضنا من تمنعه اسرائيل ايضاً؟ وكيف نعترض على زيارة القدس التي لا تريد اسرائيل الاعتراف بها كعاصمة دينية للمسيحيين والمسلمين العرب؟ أليست الزيارة تأكيدا لانتمائها لنا؟
هذا وكنا قد اعتدنا على منطق الكيل بكيالين وعلى الازدواجية عند مكونات الممانعة وحاملي لواء المقاومة، وجميعنا ما زلنا نذكر كيف انقلب التعامل مع النائب السابق في الكنيست عزمي بشارة من مقاوم كبير عندما كان يغض الطرف عن ممارسات النظام السوري ويعده سنداً للمقاومة وفجأة تحول “إسرائيلياً” وتكاثرت المقالات التي تهاجمه على ما كان يُمدح عليه واتحفنا غسان بن جدو بالعنوان التالي عندما وقف مع ثورة الشعب السوري: “اسطورة عزمي بشارة احترقت حتى النهاية وتفحمت”!!
ثم لنتوقف للحظة ونسأل انفسنا: هل إن إسرائيل ستكون مستعدة ومرتاحة حقاً للتطبيع معها؟ هل سترضى – افتراضاً- عن اجتياح مئات آلاف العرب لزيارة القدس وحيفا وعكا ومدن الجليل وغيرها؟ من حجاج أو غيرهم؟
نرفع الصوت لمقاومة العدو الاسرائيلي بشتى الطرق. فلنسأل ما هي الطرق الممكنة إذن؟ عبر محوها عن خرائطنا؟
ان جبهة الجنوب هادئة، ومن أهدأ مناطق لبنان منذ حرب 2006 وتطبيق بنود القرار 1701 الذي يطبقه الطرفان بحذافيره، وهناك مطالبة بتطبيقه في البقاع والشمال. والجولان هادئ منذ أكثر من 40 عاماً ما عدا بعض المناوشات اخيراً غير واضحة الصفة او الاهداف. والمقاومة وجدت أن الطريق الى القدس يمر بالقصير وحلب وجميع سوريا تحت ذريعة “التكفيريين” الاسم المستجد لـ”القاعدة” و”داعش” و”الغبراء” و”النصرة” (غير واضحي الأصل والفصل) ومن لف لفهم ليغطوا “حربهم الأخوية”.
وتنطلق الحناجر من عقالها اعتراضاً على إعلان البطريرك، ومهما كانت دوافعه فليس هذا هو المهم، اعتزامه القيام بزيارة القدس. ومن قبيل الجدل العقلي: إذا كان لـ”حزب الله” وايران من خلفِه الحق في الدفاع عن مقامات الشيعة في سوريا وغيرها، فلم لا يحق للبطريرك الذهاب الى القدس للدفاع عنها في وقت تتعرض يومياُ للهجمات من قبل المتعصبين الصهاينة؟
ثم ليخبرني أحدكم بالله عليكم: لماذا تكون ادعاءات اليهود التاريخية بأرض فلسطين مدعاة للسخرية والرفض ولا تكون ادعاءات الايراني كذلك؟؟؟ وليخبرني للمناسبة نفسها عن الفرق بين احتلال اسرائيل للبنان وبين ادعاء ايراني بأن حدوده وصلت الى جنوب لبنان؟ ما يلزمنا بالتساؤل: هل كانت مساعدته على تحرير الجنوب وسيلة ليحل محل الكيان الغاصب الاسرائيلي؟ وهل يعتقد أنه يكفيه لذلك تغطية “حزب الله” له (الذي صمت صمت القبور عن هذه التصريحات!!) وهو الناطق باسم فئة من الشيعة وفئة من المسيحيين، بينما يرفض هذا الادعاء معظم اللبنانيين الآخرين ومن جميع الطوائف؟
في كانون الثاني من العام الجاري في دافوس حاول الرئيس الايراني طمأنة الغرب الى أن إيران “تتغير”، ولكن إسرائيل شككت بذلك، فما كان من الوزير ظريف إلا أن حاول بعث رسائل تطمين للإسرائيليين في عبر تصريحه الشهير في ميونيخ بأن “المحرقة” مأساة قتل وحشية “مشؤومة”؟! -وأشاطره الرأي بذلك – هذا بعد ان كان عبّر انه يكن “كل احترام لليهود”. ولو أنه تعرّض “للمساءلة” في ايران (ربما لذر الرماد في العيون كرمى الممانعة والمقاومة) فالجميع يعلم انه ما كان ليقدم على هذا التصريح من دن غطاء من رئيسه ومن مرشده الأعلى. ولقد تم توجيه السؤال اليه عبر العديد من المقالات الصحافية : ثم ماذا عن محرقة الأسد بحق الشعب السوري وسوريا بأكملها؟ متى الاعتذار عن ذلك؟ ربما في القرن المقبل؟
ليقنعني أحد بعد هذا أن زيارة البطريرك للقدس ليست فعل مقاومة!! وان المقاطعة والتهويل والمقاومة لم تكن سوى لبلوغ إيران شواطئنا لاستعادة أمجادها الفارسية!! فبماذا تختلف مطامعها عن مطامع إسرائيل؟ وهل قتل الشعب السوري وتهديم سوريا أقل فظاعة من احتلال فلسطين والاعتداء على شعبها؟