لقلك الكنيسة

كتابات – نصير الدين عبدالرحمن الحسينيaa5

يروى في قديم الزمان وسالف العصر والآوان ، عن وجود طائر طويل الساقين نحيف البنية كان اسمه اللقلق ، وكان يأتي الى العراق في ايام الشتاء فيبني اعشاشه فوق اماكن مرتفعة مثل مأذنة جامع او برج كنيسة ، او ربما فوق بعض المباني الخربة المرتفعة . في ايام طفولتي كنت ارى احد اللقالق يعشعش كل عام فوق برج كنيسة اللاتين الملاصقة لمركز الاطفاء والمقابلة لضريح حسين بن روح في الشورجة ، ولكني ومنذ ثلاثون عاماً لم اشاهد في بغداد سوى طائر واحد أو طائرين منها ، حيث انها طيور مسالمة تفزع من الحروب واصوات القنابل والرصاص .

يروى إن احد هذه الطيور المحبة للعزلة والتفرد اختار برج كنيسة ليبني عشه فوقه ، مما سـبب ازعاجاً مستديماً لشماس الكنيسة (والذي هو بمثابة مؤذن الجامع عند المسلمين ) فأشـتكى امره للقـس ، إذ إنه كلما قرع ناقوس الكنيسة تساقط عليه القش والذرق ( الذروك ) المتيبس ، فاوصاه القس بأن يأخذ قطعة من كبد جمل ويملحها بصورة حسنة ( ولحم الجمل يسبب العطش ويستحرم اليهود اكله ) ، ويضع بجوارها كاسة خمر معتقة ، فعندما يأكل اللقلق كبد الجمل يعطش ، فيضطر لشرب الخمر فيسكر ويصبح ثقيل الحركة وغير قادر على الطيران ، فيصعد اليه الشماس ويذبحه . اتبع الشـماس التعليمات بحذافيرها حتى سكر اللقلق ، فصعد اليه الشماس وامسكه من رقبته ، سحب السكين وسأله :- فهمني انت من يا ملة … ؟؟ ، يهودي … أشـلون تاكل لحم جمل ؟ ، نصراني … أشـلون اتذررك عل الناقوس ؟ ، مسـلم … أشـلون تشـرب عرك ?

هذه القصة اشتهرت ايام زمان بين الناس بأسم ( لكلك الكنيسة ) ، وهي تقال لكل المتلونين ومن لايشبه قوله فعله ، وإن قال قائل إنها تنطبق على الحكومة العراقية فهي تنطبق على حكومات بلدان عربية كثيرة . جمهوريات يبقى فيها الرؤساء لاطشين بالكرسي عشرون او ثلاثون عام ، وعندما يخلعهم ملك الموت يورثون الملك لأولادهم وكأنها دول ملكية مال بيت الخلفوهم . دول اشتراكية فيها الرئيس واولاده واقاربه وحاشيته من كبار الرأسـماليين والاقطاعيين ، يعيشون في قصور ورفاهية والشعب يشكو من الفقر والبطالة . دولة تدعي الورع والتقوى واحد زعمائها لديه بستان لزراعة الحشيش واكثر من جهة تتاجر به وتصدره . بنوك احدى الدول المتشددة في تطبيق الشريعة تتعامل وتقرض المال بالربا ، ولايستطيع رجال الدين فيها الحديث عن الموضوع لأن البنوك مملوكة بأغلبها لأمراء من الاسرة الحاكمة . اما حرية الرأي والديمقراطية في الدول العربية فحدث ولاحرج .

لاادري هل البيضة من الدجاجة أم الدجاجة من البيضة ؟؟ ، وهل النفاق صفة عربية شعبية فيخرج من بين الناس حكام منافقون ، أم إن الناس على دين ملوكهم والحكومات المنافقة تصنع شعوباً منافقة مثلها ؟؟ .

عندما نأتي للقضية العراقية نجد النفاق بأجلى صوره واوضحها ، وقد قالها بعض الصحفيين من قبلي فلا الاحزاب التي تزعم انها شيعية تسير على منهج الامام علي بن ابي طالب وتسعى لأنصاف الشيعة ورفع الحيف عنهم ، ولا الاحزاب التي تزعم إنها سنية تسير على منهج عمر بن الخطاب وتطلب بالعدل وايقاف الفساد الاداري ونهب المال العام ، إلا أنهم جميعاً يقتدون بمعاوية بن ابي سفيان ، يتباكون على دم عثمان وعيونهم معلقة على الكرسي ، متى ما وصلوا اليه نسوا كل وعودهم وكل شعاراتهم التي رفعوها ايام النضال .

مشكلة الاحزاب المعارضة التي استلمت السلطة بعد عام 2003 ، هي إنها ليست نفس الاحزاب التي عارضت نظام حزب البعث قبل عام 1980 ، بل هذا ما تبقى من شظايا وحطام الاحزاب المعارضة بعد أن اعدم صدام قادتها الاصليين وكوادرها المثقفة ، فلقد بدأوا عام 1978 بمطاردة الشيوعيين والماركسيين ، واعتقل واعدم العشرات منهم بصمت وسكون ، وهو مما تسبب بهجرة مجموعة من مثقفي وفناني العراق ، أما من خرج من السجن بعد الاعتقال والسجن فخرج منهزماً مكسوراً لايرغب بالحديث عن شئ اسمه سياسة .

الفراغ السياسي التي تم احداثه بأعتقال اليساريين ومطاردتهم استغلته الاحزاب الدينية ، لكن في عام 1979 بدأت السجون والمعتقلات تبتلع العشرات والمئات من المتهمين بالانتماء الى الاحزاب الدينية، وهرب من هرب واعدم من اعدم ، ، ولم يسلم من ذلك سوى الاحزاب الكردية حيث هربت قيادتها المثقفة الى خارج العراق منذ وقت مبكر . نستطيع القول كذلك بأن الساحة السياسية قد قلبت وحرثت تماماً ، بحيث لم يعد فيها أي تنظيمات سياسية اسلامية أو يسارية منذ عام 1983 ، ولقد تعمدت عدة اطراف أن لايجري أي تحرك سياسي داخل العراق وأن يبقى المعارضون خارج البلد لمدة طويلة ، وهو مما يغرقهم في الاحباط ويلبد تفكيرهم السياسي ، ثم ينشغلون بالجري وراء لقمة العيش وتوفير السكن ومعاملات اللجوء والاقامة في اوطانهم الجديدة بحيث لايعودوا يفكرون بوطنهم الاصلي ومشاكله .

لقد تحطمت المعارضة السياسية لنظام حزب البعث نفسياً وفكرياً ، وتشتت من تبقى من قادتها الثانويين في المنافي منذ منتصف الثمانينات ، ولم يعد لديها أي آمل أو طموح باستلام السلطة ، بل كان اقصى طموحها هو مجئ نظام عراقي اكثر انسانية ورحمة ليسمح لهم بالعودة الى العراق ، ورغم مكابرة بعض القادة السياسيين وادعائهم إنهم يسعون لتغيير النظام ، فالولايات المتحدة لم تكن ترغب أو تسمح بقلب نظام خبرته وتعرف خباياه بنظام تشكله المعارضة بدون اشراف من الولايات المتحدة نفسها ،

نحن لانستطيع أن نلوم سياسينا على ما فعلوه أو يفعلوه لحد اليوم ، فهم جاءوا ككومبارس لأكمال مسـرحية غزو العراق والذي لم يكن بحاجة لنزول 130 الف جندي امريكي لغزوه واحتلاله ، والكومبارس لا يستطيع مخالفة اوامر المخرج وإلا انزله من فوق خشبة المسرح وطرده .

كانت الولايات المتحدة قادرة على صنع انقلاب عسكري في العراق منذ عام 1993 ، ولكن كان هناك احتمال صعود بعض الضباط الوطنيين الذين لم تكن الولايات المتحدة ترغب بوصولهم للسلطة ، كما إنها منذ ذلك الوقت كانت تخطط لتحطيم البنية التحتية للعراق وتفكيك السلطة المركزية ، وذلك للسماح للأقاليم بالأنفصال في وقت لاحق ، وبما إن الجيش العراقي سيكون عائقاً ضد أي تقسيم للدولة ، فالمطلوب اضعافه وتخريبه ومنع وصول الاسلحة اليه ومن الطبيعي منعه من تنفيذ أي انقلاب عسكري ، ولم يكن قرار حل الجيش العراقي بعد الاحتلال قراراً من بريمر اتخذه تحت ضغط الاكراد والشيعة كما يزعم ، بل هو قرار اتخذه خبراء الاستخبارات المركزية الامريكية ربما منذ عام 1996 ، فالمطلوب تدمير العراق وعدم بقائه دولة موحدة تجمع ادياناً ومذاهب وقوميات شتى ، ومن مصلحة اسرائيل كذلك ان لاتبقى كياناً غريباً في المنطقة وتزعم وحدها إنها دولة يهودية في وسط دول متعددة القوميات والاديان والمذاهب ، فيجب استحداث دولة مسيحية ( حاولوا صنعها ايام الحرب الاهلية اللبنانية وفشلوا ) واخرى شيعية وثالثة سنية ورابعة كردية ولو كان عدد الصابئة في العراق يساعد فلا مانع من صنع دولة صابئية في جنوب العراق .

اتخذت الولايات المتحدة قرارها بغزو العراق في وقت مبكر ، ربما قبل انتخاب جورج دبليو بوش بسنوات ، وكان المطلوب من الغزو هو توجيه صفعة لجميع الدول التي تخالف اوامر الولايات المتحدة وطلباتها ، وجعل نظام صدام عبرة للباقين لكي يخافوا ويفزعوا ، وجاء الغزو من اجل اسقاط الدولة العراقية وتفكيكها وتحطيمها وليس من اجل اسقاط النظام فقط ، اما الحرق والتدمير والتفجيرات فكانت من ضمن السيناريو العام للمسرحية ، لكي تشعر جميع الدول بخطورة دخول جندي امريكي محتل الى اراضيها ، اما الكومبارس والبهلوانات ( والشوادي) الذين جاؤوا مع السيرك الامريكي ، فقد تم ابلاغهم مسبقاً إن الولايات المتحدة جاءت لتبقى في العراق مدة ثمان سنوات فقط ، فعليهم تدبير امورهم وأن لايقوموا بأي مشاريع اعمار أو تنمية لأن الامريكي سيغرق السفينة ومن عليها ، وهكذا نستطيع فهم ما حدث ويحدث .

إني لأستغرب من بعض كتاب المقالات ، عندما يناشدون ضمير السياسـيين او يتكلمون عن الأمن او العدل المفقوديين ، فسياسيونا بمعظمهم لقالق مهاجرة جاءوا ليتنعموا بشتاء العراق الدافئ ويرحلوا ، ولا نستطيع الطلب منهم الخروج عما رسمه لهم المخرج الامريكي سـلفاً ، فحتى الخلافات بين فلان وعلان حول من يشكل الوزارة كان متفقاً عليها بين الممثلين والكومبارس ، حيث صرح احد الممثلين ( بالخطأ ) بأنهم سيعوضون ابو اسراء بخمسة اشهر يبقى فيها رئيساً للوزراء وأن الوزارة لن تشكل الا في شهر تشرين ولم نأخذ كلامه على محمل الجد .

ارجو من جميع الكتاب التفكير بمواضيع جديدة يتحدثون عنها ، مواضيع لاعلاقة لها بالفساد الاداري او بالخدمات المفقودة ، وعدم الطلب من المسـؤولين ايجاد حلول او بناء مساكن للمهجرين أو تحسين البطاقة التموينية ، فأقصى ما استطاعت الحكومات المتعاقبة منذ السقوط فعله ، هو استحداث قانون الرعاية الاجتماعية وتوفير رواتب لبعض الفقراء والمعوقين ، ونحن لانستطيع الاعتماد على السـادة المسؤولين ( من مختلف الاحزاب السياسية ) في احقاق حق أو انصاف مظلوم او اعادة مهجر الى بيته ، كما لانستطيع مناشدة ضمائرهم ( الحية ) أو طلب العدالة والرحمة ( وهل موجودة في قاموسهم ؟ ) ، ولاحتى سؤالهم عن دينهم او مذهبهم أو عقيدتهم ، واللي ما افتهم الحجاية خل يقره سالفة لكلك الكنيسة .

This entry was posted in الأدب والفن, فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.