لقد صفعتنا العلوم بتعميمات جرحت نرجسيتنا عميقا وقضت على تصوراتنا عن فرادتنا ككيانات بشرية وكشفت لنا عن قزمية كوكبنا الأرضي في خارطة الكون ،مجرد كوكب ضئيل من جملة كواكب عديدة تدور حول الشمس والتي بدورها ليست سوى نجم من ضمن نجوم عديدة في مجرة من ضمن مجرات عديدة كذلك ، لم تكتفي العلوم بتلك الصفعة بل وضعت إحتمالية قاسية لنشوء الحياة على كوكب آخر ثم إنتقالها إلى كوكبنا ، بمنتهى الوقاحة أخبرتنا تلك العلوم بأننا لسنا مصطفين منذ الأزل أو منذ النشأة الأولى لنا كما تخبرنا الكتب المقدسة وكما أخبرنا الأسلاف ، نحن ننتمي لمملكة الحيوان ونرتبط مع الحيوانات بنسب مباشر وننحدر من جد واحد مشترك بيننا .
شهوتنا الجنسية والإفتتان الجسدي المتبادل بين الرجل والمرأة مجرد أوهام أو خدع متقنة من جيناتنا لتحثنا وتغرينا على التكاثر ، مجرد تفاعلات هرمونية و عصبية ، و الحس الجمالي الذي طالما تغنينا به المتضمن في الجنس مجرد صيغة من صيغ الانتخاب الطبيعي والية من الياته التي يدفعنا بها لحفظ نوعنا من الإنقراض .
اللاوعي أو اللا شعور يتحكم في الكثير جدا من سلوكنا وممارساتنا ويشكل الجانب الأكبر من حياتنا الداخلية والدافع الأساسي لسلوكنا ومواقفنا .
حرية الإرادة مجرد وهم وخدعة كبرى ، نحن عبيد لجيناتنا وأنماط تربيتنا وذراتنا المكونيين منها وتعليمنا ، حتى لو كنا أحرار في تنفيذ رغباتنا فنحن لسنا أحرار في رغباتنا تلك ، فهي نتاج عوامل يشكل البعد القسري جانب كبير جدا منها .
ورغم كل تلك الصفعات الوقحة التي وجهها لنا العلم ، ورغم مقاومة العديد من السلطات و المؤسسات والأفراد لها إلا أن البشر أو الغالبية الساحقة منهم إستطاعوا أو سيستطيعوا في المستقبل إمتصاص الصدمة والتعايش مع الحقائق الصادمة ، غالبية البشر باتوا مقتنعين بلا مركزية الأرض على سبيل المثال ، بعضهم كذّب الحقائق الدينية والبعض الآخر قام بتأويلها لتنسجم مع تلك الحقيقة الجديدة .
ورغم أن حقيقة وهمية الإرادة الحرة والنفوذ المخيف للاوعي على خياراتنا وسلوكنا باتت معرفة لغالبية المهتمين بالمعرفة ولو إهتمام سطحي إلا أن الحرية لا زالت قيمة سامية بالنسبة لهم ، وهدف نبيل يستحق أن نكافح لأجله سياسيا .
جميع علماء البيلوجيا يدركون أصلنا الحيواني ورغم ذلك يكافحون من أجل الإنسان ويضعون الأولوية للحياة الإنسانية دائما ، جميعهم يعلمون حقيقة الرغبة الجنسية لكنهم رغم ذلك يستمتعون كغيرهم بممارسة الجنس .
ما أريد أن أقوله هو أن لدينا ميزة أو خاصية بحياتنا الداخلية تجعلنا نتصالح ونتعايش مع الحقائق الجديدة مهما بدت صادمة لنا في البداية ، لدينا قدرة الإستمتاع بالجمال مهما بدا على مستوى التحليل العلمي مجرد خدع بصرية أو هرمونية ، في إحدى جلسات شارع النيل تسائل أحدنا : ماذا لو إكتشفنا أننا نعيش داخل مصفوفة أو نموذج من صنع كائنات أخرى أزكى منا ؟ ماذا لو لم نكن حقيقيين ؟ أعتقد أننا حتى في هذه الحالة سنحتفظ بما لدينا من قدرة على عيش الحياة بذات الحماس والحيوية التي نحيا بها ، والفضل يعود للخاصية القارة بدواخلنا ، أعني خاصية التأقلم مع الحقائق التي أتحدث عنها والتي كما ذكرت تعمل بشكل تلقائي على معالجة الجروح النرجسية بإستمرار .
قد يستطيع العلماء ذات يوم خلق حياة في أنبوبة إختبار عن طريق البدء بمواد كميائية حيوية غير حية ويصفعون أقدس الأفكار الإنسانية المتعلقة بالخالق الوحيد المتعالي العاجزون عن تقليده .
بإمكاننا إستخدام الروبوت والسيليكون والفولاذ داخل الجسد الإنساني وزرع قلوب وأطراف واذان و أعين صناعية وإجراء العديد من التحسينات البيلوجية لإطالة العمر وتعديل الأجسام بواسطة العمليات الجراحية ونصفع المعتقدات العميقة لدينا المتعلقة بالرضا بالنصيب والقدر الإلهي والإيمان بحكمة الله في توزيع تلك الأنصبة ، وسنتسائل على إثر ذلك هلى سيأتى على الإنسان حين من الدهر سيتحول فيه إلى محض الة صناعية .
سنستخدم أقصى قدراتنا على التحكم في التركيب الجيني ، و التنبوء بالأسباب الجينية للأمراض والتلاعب بالجينات لتجنبها ، وسنصنع المزيد والمزيد من الأطعمة المعدلة وراثيا وسيفتح ذلك تساؤلات أخلاقية وفلسفية عميقة حول العواقب الأخلاقية لتلك الأنشطة العلمية وهل هي مهينة للإنسان ؟ ماهو الانسان ؟ وما حدود ما يمكن تغييره فيه ؟ ما معيار صحة أو أخلاقية هذه التعديلات البيلوجية وعدم صحة تلك ؟ ما مسؤولية العالم الفردية كشخص متلاعب في أشكال الحياة ؟
بالنسبة لي الأسئلة ملحة لكن ليس على حساب العلم ، على العلم أن يتحرك بمنتهى الصرامة في أي فضاء متاح له ، يجب أن يحقق كل إمكانياته ، لا يجب أن يلتفت إلى المعتقدات أو العادات أو الأخلاقيات السائدة في سياق بحثه عن الحقائق التفسيرية لهذا الكون ، ولا يجب أن يكترث للأعراض الجانبية ـ سيما الأخلاقية ـ لمساهاته في مجال سعيه لتحقيق رفاهية الإنسان . فذلك الإنسان لديه تلك الخاصية العظيمة التي تمكنه من لعق جراحه النرجسية والسير خلف العلم في بحثه عن عالم أفضل دائما ، خاصية إمتصاص الصدمات العلمية التي تكشف أوهامه الكبرى .