الدكتورة أنيسة فخرو
أجمل ما سمعته مؤخرا محاضرة للدكتور محمد شحرور، والتي تُمثل مفهوم الاجتهاد خير تمثيل، حيث يقول: إن القرآن قد تم تفسيره إبان الدولة العباسية والتي كانت من أقوى الإمبراطوريات على وجه الأرض، بطريقة تخدم النظام السياسي، مما يعني إن الدين تم استغلاله لأهداف سياسية بحتة.
وبعد قراءة الباحث لأمهات كتب الفقه والتفسير التي وُضِع جُلها أئمة في العصر العباسي، بدءا بالأئمة (بحسب الأكبر سنا) أبو حنيفة، ثم جعفر الصادق والمالكي، ثم الشافعي وابن حَنْبَل، وكلهم ولِدوا بعد وفاة النبي (ص) بأكثر من خمسة وستين سنة، يؤكد بأن القرآن تم تفسيره ليخدم الطبقة السياسية الحاكمة آنذاك.
وبعد دراسة متأنية، اكتشف إن من أهم أركان الإسلام والتي أكد عليها القرآن بالإضافة إلى الإيمان بوحدانية الله، هو العمل الصالح، لكن رجال الدين تجاهلوا ذلك الركن الأساسي وركزوا على الأركان الأربعة: الصلاة والصيام والحج والزكاة، والتي وردت تفاصيلها في السنة النبوية، وألغوا الركن الأساسي الثاني في الإسلام: ألا وهو العمل الصالح، من أجل أن ينمّطوا عقلية البشر وتفكيرهم وسلوكهم.
كما أكد الباحث أنَّ القرآن إحتوى بداخله جميع الأديان التي سبقته وصهرها في بوتقة الإسلام العظيم، لذلك فالمسلم الحقيقي يمكن أن ينتمي إلى أي دين آخر بشرط إيمانه بوحدانية الله، وقيامه بالعمل الصالح لخدمة الآخرين.
وكلما يزيد محيط خدمة الآخرين، من الناس والمجتمع إلى البشرية جمعاء، يزيد تقرب الإنسان إلى الله، والله يحاسب البشر على أعمالهم يوم القيامة فردا فردا، لا شعوبا وجماعات.
والآيات الكريمات بالتسلسل من سور البقرة والحج والمائدة: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)
(إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا، فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون).
يتساءل الباحث قائلا: لماذا لم يذكر القرآن كلمة المسلمين ضمن كل تلك المعتقدات في تلك الآيات؟ ويجيب: لأن الإسلام المتمثل في الركنين الأساسيين: الإيمان بوحدانية الله، والعمل الصالح، يمكن أن يكون موجودا في كل تلك المعتقدات.
وأنا أكتب الآن، ويخطر في بالي ما تفعله الممرضة والعاملات المسيحيات بإخلاص تجاه مرضانا، وأقول في نفسي، هن سيدخلن الجنة حتما، كما يحضرني أسماء كل العلماء الذين ساهموا في إكتشاف الأمراض العصية وكيفية علاجها، حماية للبشرية جمعاء من الأوبئة التي كانت منتشرة في القرون الماضية، كالطاعون والكوليرا والملاريا والجدري.
بل أني كنت أقول في نفسي أن إديسون الذي اخترع الكهرباء حتما سيكون من أهل الجنة، مع مخترع المكيف والهاتف والمكيف والطائرة وغيرها من المخترعات التي أفادت البشرية جمعاء.
في كل العصور التي تلت الخلافة الراشدية، تم ترسيخ مفاهيم تخدم الحاكم ورب الأسرة، وزاد رجال الدين من جرعة تثبيت تبعية العبد للسيد، والمرأة للرجل، وتبعية الرعية للحاكم، وتفسير الآيات الكريمة لصالح الظلم والظالمين، فمثلا الآية الكريمة: (أَطِيعُوا الله ورسوله وأولوا الأمر منكم)، فسر رجال الدين أولوا الأمر بأنهم الحكام وليسوا رجال العلم والحكمة كما يقصد القرآن الكريم، لضمان العبودية والتبعية للظالم مهما زاد ظلما وعتوا، واستبعدوا الآيات والأحاديث التي تحض على الجهاد ضد الظلم والظالمين، كما استبعدوا الآيات التي تحث على التفكير والتفكر وإعمال العقل.
كما أن القرآن الكريم احتوى العلمانية بداخله، واحترم جميع الأديان والمعتقدات بل واحترم حتى الكفرة، فالآية الكريمة: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا اعتدنا للظالمين نارا) ولم يقل للكافرين.
ونتساءل؟ هل العقل البشري في خدمة السلطة أم في خدمة الأخلاق والمجتمع؟ ونؤمن بأن كل تفسير للقرآن الكريم هو وضعي، أي من وضع البشر وليس نصا مقدسا، وندرك بأن بعض الأنظمة تقوم وتستمر نتيجة خضوع المؤسسة الدينية للمؤسسة السياسية، كما في أغلب الأنظمة العربية حاليا، أو العكس، أي خضوع الدولة للمؤسسة الدينية، كما في إيران حاليا وفي أوروبا القرون الوسطى، وكلاهما ينتج عنهما الفساد، الذي يعتبر نتيجة طبيعية لآفة الآفات، الاستبداد، وهو الذي يحجر إعمال العقل ويحارب الاجتهاد