بقلم حازم الأمين/
انتقل السجال السياسي اللبناني إلى مستواه المتوقع، في ظل نتائج الانتخابات النيابية التي أعطت حلفاء النظام السوري من اللبنانيين غالبية في مجلس النواب. واليوم صار بإمكان الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله ورئيس مجلس النواب نبيه بري أن يقولا “الأمر لي”، خاصة لجهة تطبيع العلاقة مع النظام السوري، وفي ظل حال الوهن التي يكابدها خصمهما الأهلي رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري. والرجلان باشرا المهمة بما يوحي بأن ثمة ما هو داهم وملح ويقتضي المعالجة الفورية لجهة “تصويب” العلاقة مع نظام البعث.
ثمة شيء مستغرب في هذا الاستعجال، فالممانعة لديها من الوقت ما يكفي لحياكة “تصويب” أمتن لهذه العلاقة، خاصة وأن خصمها الداخلي لم يبد يوما صلابة في ثباته على مسلماته! بالأمس مثلا استعجل وزير المال علي حسن خليل، المقرب من بري، القول بأن استيراد الكهرباء من سورية سيوفر على الخزينة الأكلاف المرتفعة للكهرباء التي ستزودنا بها الباخرة التركية، ليأتيه الرد بعد دقائق من وزير الطاقة، سيزار أبو خليل، وهو عوني ومن غير خصوم النظام في سورية، الذي قال إن الكهرباء التركية أقل كلفة بكثير من الكهرباء السورية.
موقع لبنان من سورية الجديدة، التي في طور التشكل، سيتحدد بموجب رغبات حزب الله ونواياه السورية
وراء الاندفاعة نحو النظام السوري ما يتعدى لبنان. فاليوم ثمة من يرسم خريطة النفوذ في سورية، ولبنان جزء من المشهد، وأن تتولى قواه الموالية لمحور الممانعة مهمة ضمه إلى أوراقها التفاوضية بصفته أحد حدائقها الخلفية، فهذا ما يعزز موقعها التفاوضي. إيران أبعدت عن الحدود السورية ـ الإسرائيلية بموجب صفقة بين موسكو وتل أبيب، وهو ما أدى إلى سحب ورقة مهمة من يدها، ورقة سبق أن استثمرت فيها دماء وأموالا، وهي وإن كانت لم تخسر كل أوراقها السورية إلا أنها خسرت نصفها على الأقل.
موقع لبنان من سورية الجديدة، التي في طور التشكل، سيتحدد بموجب رغبات حزب الله ونواياه السورية. الحزب سيقدم على ذلك من دون صعوبات كبرى. تصريح الحريري، الذي قال فيه إنه سيمانع علاقات طبيعية مع النظام السوري، لن يكون عائقا هذه المرة، ذاك أنه أقرب إلى استغاثة أخيرة تسبق القبول.
القصة في مكان آخر تماما. القصة خارج لبنان، وانتصارات الممانعة العسكرية في سورية والانتخابية في لبنان لن يكون لها قيمة إذا ما أدرجت في سياق بحث الدول الكبرى عن تثبيت خارطة لسورية. ما جرى في جنوب دمشق كان مذهلا لجهة كشفه انعدام قيمة “الإنجازات الميدانية” إذا ما تعلق الأمر بمصالح دول أكبر. إبعاد إيران 40 كيلومترا عن الحدود مع إسرائيل جرى من دون أي ضجيج! تولي الشرطة الروسية الفصل بين أجهزة النظام وبين خصومها من السكان جرى أيضا بمنتهى الهدوء! من المفترض أن هذه الوقائع ليست امتدادا للمشهد الميداني الذي حققت فيه طهران تقدما وانتصارات وبذلت في سبيله دماء وأموالا.
إيران بدأت تفقد بسبب ذلك مواقع لها في العراق كان من الصعب توقع فقدانها بهذه السهولة
لكن ذلك يجب ألا يدفع إلى توهم أن إيران فقدت أوراقها السورية. هي فقدت جزءا منها، وهي اليوم بصدد تعويض خسائرها عبر ضم لبنان إلى المعادلات السورية. فـ”تطبيع” العلاقة بين لبنان وبين النظام السوري سيتم حتما برعاية وإدارة إيرانية كاملة، وأن تجلس إيران على طاولة إعادة رسم النفوذ في سورية معززة بهذه الحقيقة فهذا سيرفع من قدراتها التفاوضية. هذا وحده ما يفسر وثبة جماعات طهران اللبنانيين إلى استحضار واستعجال بحث “تطبيع” العلاقة مع نظام دمشق ومع حكومتها.
لكن الاستغراق في هذه الحسابات لا يجدي دائما، لا سيما في ظل احتمالات تفوقها قدرة على خلط الأوراق. طهران تكابد اليوم العقوبات الأميركية والانهيار المتواصل لقيمة عملتها. وإيران التي هذه حالها بدأت تفقد بسبب ذلك مواقع لها في العراق كان من الصعب توقع فقدانها بهذه السهولة. من كان يصدق مثلا أن يسارع رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي إلى القول إن حكومته ستلتزم بالعقوبات الأميركية وإن كانت لا توافق عليها، وأن يتولى مقتدى الصدر تغطية موقف العبادي بعد أن باشرت قوى شيعية عراقية حملة عليه بعد موقفه هذا؟
ولبنان الذي تمسك به طهران من ألفه إلى يائه وأنجزت فيه مؤخرا فوزا انتخابيا لا يشق له غبار، لبنان هذا لن يعوضها تصدع موقعها في سورية. وهي، أي طهران، في لحظات كهذه غالبا ما تكون شديدة الواقعية وهو ما يمكنها من أن تجري حسابات دقيقة وتخرج منها بتجرع “كأس سم” صغير آملة بعده ألا يموت الذئب وألا تفنى النعاج. كل هذا ولبنان ما زال يصدح بما لا شأن له به.
شبكة الشرق الأوسط للإرسال