لا يزال نظام لبنان السياسي أقوى بما لا يقاس من القوى الطامحة لتغييرات هنا وهناك. يوم الأحد الفائت احتل اللبنانان شاشات الحدث السياسي. مظاهرة ضمت الآلاف في ساحة رياض الصلح في قلب بيروت ضد ضرائب تناقشها الحكومة لتمويل زيادات رواتب موظفي القطاع العام. وتجمع شعبي في قصر المختارة التاريخي، ومعقل الزعامة الدرزية الجنبلاطية، ضم عشرات الآلاف، أتوا ليشهدوا على توريث وليد جنبلاط الزعامة لنجله تيمور.
جمهور الشهود على التوريث فاق بكثير جمهور المعترضين على الضرائب، الذين منذ أزمة النفايات في لبنان يعبرون بشكل متزايد عن ضيقهم بكل القوى السياسية التي تشكل ما يسمى الطبقة السياسية اللبنانية، أي قوى النظام السياسي المخضرمة الممتدة حياتها منذ منتصف الحرب الأهلية حتى اليوم.
كأنها بمحض الصدفة منافسة مشهدية بين النظام والمعترضين عليه، أو فاقدي الثقة بقواه السياسية، جاءت نتيجتها حاسمة لصالح النظام بصوره الأكثر تقليدية.
جرت العادة أن يرث الأبناء آباءهم في لبنان. وجرت العادة أن يرث الوارثون في أثر دراما الموت وغالباً القتل. لكنها من المرات النادرة التي يرث فيها الابن أباه الحي، والنشط، والمتوقد. لسنا بإزاء الراحل بشير الجميل الذي فرض نفسه على أبيه بيار. ولا بإزاء الراحل داني شمعون الذي شكل ثنائياً شمعونياً مع أبيه الرئيس الراحل كميل شمعون. ولا طوني فرنجية النائب والوزير ورئيس الميليشيا في عهد والده الرئيس الراحل سليمان فرنجية.
غير أن هذه الصورة القوية لقوى النظام السياسي، لا تعبر بدقة وعدل عن أزمات الطبقة السياسية اللبنانية أو النخبة الحاكمة. فهي تتعرض لتآكل مستمر لشرعيتها ولنزيف حاد من ثقة الناس بها. المزاج الشعوبي الغاضب في لبنان من فرض الضرائب، وقبله من الفشل المهين في حل أزمة النفايات، والارتباك الفاضح للحكومة آنذاك التي تراجعت عن مناقصات تلزيم معالجة النفايات بعد اعتمادها بأربع وعشرين ساعة، يتغذى من واقع الفساد المستشري في لبنان الذي يحتل المرتبة 136 عالميا من أصل 176. بسذاجة وواقعية يقول بعض اللبنانيين: «لن ندفع ضرائب يأكلها أهل السلطة». لا شك أن مسألة الفساد في لبنان أعقد بكثير من هذه الجملة الساذجة، ولكن الدقيقة في التعبير عن ضيق الناس بالنخبة السياسية الحاكمة. فقاعدة الفساد في لبنان أوسع بكثير من فكرة «الزعيم السياسي الحرامي»، وهي بمثابة عقد اجتماعي بين الزعيم والرعية موازٍ للعقد الاجتماعي بين الفرد أو الجماعة والدولة. ومزاريب الفساد مفتوحة وتطال «خيراتها» ضمن علاقة زبائنية معقدة شريحة كبيرة من جمهور هذا الزعيم أو ذاك، لا سيما إذا اتسع تعريف الفساد ليشمل التوظيف الاستنسابي في القطاع العام أو الترقي ضمن سلم الدولة الوظيفي أو الاستنسابية في منح الحكومة العقود الاستثمارية والإنشائية للقطاع الخاص، وغيرها الكثير من وجوه عملية «ضم وفرز» اجتماعية وسياسية واقتصادية تستتبع هذا وتهمش ذاك!
ولئن كان الفساد سياسة عميقة، فهو لا يواجه بعبارات ساذجة وحسب. ذلك من شأنه تأبيد مشهد يوم الأحد. فواحد من وجوه الأزمة الفعلية في لبنان هو فائض «التسييس» وندرة «السياسة». تسييس كل شيء في غياب السياسة. لا سياسات واضحة أو غير واضحة، كلية أو جزئية يمكن العثور عليها حول أي ملف حقيقي. ما نحن أمامه هو صراعات تسيسية بين أركان الطبقة السياسية (داخل السلطة وخارجها). وفي المقابل شعبوية تسيسية لم تنتج حتى الآن أي فكرة جدية ولا تبدو على أي صلة حقيقية بتجارب مكافحة الفساد في العالم من لي كوان يو صانع سنغافورة الحديثة إلى القاضي سيرجيو مور في البرازيل!
الخطير أننا نعيش نهاية شيء ما من دون ولادة بديل.
واحدة من القواعد المؤسسة والعامة لليبرالية هي فكرة المساواة الحقوقية والسياسية. وهي التبرير الأخلاقي الليبرالي لعدم المساواة المادية، أي تساوي الفقير والغني والأعراق والجندريات و… و… في الحقوق والفرص في مقابل عدم تساويهم المادي (الثروة، المكانة المهنية… الخ). شرط ذلك هو توفر بنية قانونية شفافة تصون التنافس وعدالته وتحارب المسالك الملتوية للتفوق.
ولعل الحاصل اليوم في الغرب من صعود شعبوي هو نتيجة انهيار السند الأخلاقي هذا الذي يتيح التعايش بين عدم المساواة المادية في مجتمع مساواتي «ايغاليتاريان» حقوقي وسياسي. الانهيار الأخلاقي لليبرالية، فضحته وثائق «أوراق بنما» و«ويكيليكس» التي تظهر سيادة الطرق الملتوية وانعدام العدالة في الوصول إلى التفوق المادي عبر الفساد واستغلال السلطة والنفوذ.
لبنان هو جزء من هذا الانهيار العام معطوفاً على أسبابه الخاصة، ومشدوداً نحو هاوية أبسط أزماتها قانون الانتخاب.
* نقلا عن “الشرق الأوسط”