بقلم حازم الأمين/
يجب أن نبدأ فعلا نحن اللبنانيين بالتفكير بأنفسنا بوصفنا عرضة لجنون عظمة جماعي. وأن نباشر هذه المهمة من موقع مختلف عن ذلك الذي باشرت منه جماعات غيرنا تفكيرا موازيا، ذاك أن الصعوبة في حالتنا تكمن في ضعف الأسباب المقنعة والمباشرة لجنون العظمة، إلا إذا اعتبرنا أنه نوع من الرد على إحساس معاكس، أي “شعور بالدونية” يتم الرد عليه بتعظيم النفس.
تمثلت الواقعة الأخيرة بمقابلة إعلامية مع طبيب كشف فيها أن اللاجئين السوريين هم من أسباب تزايد حالات السرطان في لبنان. الطبيب لم يذكر الغبار المنبعث من المقالع والكسارات التي تملكها “العائلات السياسية” في لبنان. ولم يذكر طبعا النفايات المتراكمة بفعل فشل وفساد المسؤولين. ولم يذكر الشاطئ اللبناني الذي وصل تلوثه إلى المياه الإقليمية فرفعت دول مثل اليونان وقبرص الصوت وهددت بشكاوى عبر محاكم دولية. اللاجئون هم السبب الذي يمكن للبناني متضخم الوجدان الوطني أن يحيل إليه أسباب تزايد حالات السرطان. واللبناني هذا، طبيب وليس مواطنا عاديا، وهو مسؤول طبيا وعلميا عن أقواله. ظاهرة “نقاء العرق” بدأت تجد طريقها إلى الأمة اللبنانية. العرق المهدد بـ”الاختلاط” وبالتلوث.
لبنان جبران باسيل، ولبنان الطبيب صاحب الكشف العلمي، لم يكتف بإحالة كل أشكال الفشل إلى اللاجئين، فهو استدخلهم إلى شبكة فساده
في لبنان صار لـ”العنصرية” شعراؤها وسياسيوها وأطباؤها وجنودها، لكنها تفتقد إلى موضوعها. اللاجئون لا يمكن أن يكونوا لوحدهم موضوعا لهوية، ونازعا لتشكل عنصرية. يحتاج تشكل العنصرية إلى هوية وإلى شعور بهذه الهوية. لبنان اليوم أقل من أن يكون هوية. وبهذا المعنى فإن العنصرية فيه تأتي مفتعلة ومن دون موضوع. وهي لذلك السبب ركيكة وتحمل قدرا من الهزل لا يخفف من بشاعتها.
عندما يردد مسؤول لبناني بحجم وزير الخارجية جبران باسيل أنه عنصري في انحيازه إلى لبنان، وهي مقولته الأثيرة، فهذا يعني أنه يبحث عن لبنان في عنصريته الخاصة، وأنه لم يعثر عليه خارج هذا الجرح النرجسي. ثم أن الباحث عن لبنان هذه الأيام لن يجده خارج هذه القيم وهذه المآسي. فالمعاني والصور التي يمكن أن يخلفها نطق العبارة، أي لبنان، في مخيلة سامعها، لن تزيد عن فساد طبقته السياسية وفشلها وعن تلوث بحره وتآكل مساحاته الخضراء، ناهيك عن الطائفية والارتهان للخارج والعيش على شفير انهيار اقتصادي وشيك. وبلد هذه حاله، تبحث نخب سياسية واجتماعية فيه عن أسباب تزايد حالات السرطان في اللاجئين. إلى هذا يمكن للمرء أن يرد جنوح “مواطن” للبحث أن ضائقته خارج نفسه.
لكن لبنان جبران باسيل، ولبنان الطبيب صاحب الكشف العلمي، لم يكتف بإحالة كل أشكال الفشل إلى اللاجئين، فهو استدخلهم إلى شبكة فساده، فصار التمويل الدولي لأكلافهم جزءا من طموحات المسؤولين اللبنانيين في مراكمة الثروات، والغريب أن هؤلاء المسؤولين هم أنفسهم أصحاب الصوت الأعلى في مواجهة اللاجئين.
ما قاله الطبيب اللبناني هو تكثيف لمزاج بدأ العمل عليه منذ سنوات، وصار جزءا من خطاب سياسي استعاض فيه أصحابه عن فقدانهم موضوع هويتهم بقضية إنسانية انطوى نيلهم منها على قدر هائل من انعدام النزاهة والأخلاق. ولطالما تعامى أصحاب هذا الخطاب عن حقائق جلية. فقد اتهم اللاجئون بالوقوف وراء العمليات الإرهابية التي استهدفت مناطق لبنانية عدة، في حين كشفت هويات الفاعلين أن عدد المتورطين اللبنانيين في هذه العمليات يفوق بأضعاف عدد المتورطين السوريين.
في لبنان صار لـ”العنصرية” شعراؤها وسياسيوها وأطباؤها وجنودها، لكنها تفتقد إلى موضوعها
ومثلما فعل الطبيب الذي تعامى عن الأسباب الواقعية لتزايد حالات السرطان في لبنان، تعامى أصحاب الخطاب التحريضي عن حقيقة أن وراء الإرهاب فاعلين لبنانيين. فالخطاب في سعيه إلى أن يتحول لغة شائعة لا يبتغي الحقيقة بقدر ما يبتغي أن يعبر عن نفسه متخففا من أي التزام معرفي أو أخلاقي أو قيمي. اللاجئون السوريون هم وراء العمليات الإرهابية حتى لو كان وراءها لبنانيون، وهم وراء تراجع المدرسة الرسمية بعد تقاطرهم عليها، حتى لو بلغت قيمة المساعدات الدولية لهذه المدرسة بفعل استقبالها التلامذة السوريين نحو 300 مليون دولار سنويا، وهم وراء ضعف التغذية بالتيار الكهربائي على رغم أن هذا الضعف سابق على لجوئهم إلى لبنان، وأن مخيمات اللاجئين لا تصلها الكهرباء.
أما حقيقة أن من أسباب صمود العملة اللبنانية في وجه احتمالات انهيارها كانت ودائع متمولين سوريين في المصارف اللبنانية بلغت قيمتها نحو عشرة مليارات دولار، فهذا ما يتم تجاهله في خطاب العرق المهدد بسرطان اللاجئين، لا بل ربما استعين به للقول إن استقرار هذه الودائع في مصارفنا يشكل عبئا، علينا البحث عن جهات ممولة لتعويضنا أكلافه. ومن قال إن هذه الفكرة لم تراود وزيرا لبنانيا ما في سعيه لاستطلاع مجالات استثمار جديدة.
كل هذا يبقى مفهوما في دوامة الفساد اللبناني، أما أن يصل الأمر إلى مستوى تحويل السرطان إلى مرض وبائي، فهذا سبق يمكن أن يسجل لمتضخمي الوجدان الوطني ممن يهربون من حقيقة أن “الفشل هو في مكان آخر”.
شبكة الشرق الأوسط للإرسال