كامل النجار
نشر السيد علي رغيد الخيرو مقالاً في موقع “الحوار المتمدن” يرد فيه على مقال للسيد نهاد كامل الذي كان قد قال إن الخالق لا يمكن إثبات وجوده بالمنطق وإنما يعتمد وجوده على الإيمان فقط. ورغم أن المقال موجه للسيد نهال كامل فقد رأيت أن ألقي بدلوي بين الدلاء عساني أن أضيف شيئاً لموضوع النقاش
يقول السيد علي رغيد “ان وجود الله لا يخضع لشيئ و انما هو وجود يخضع الاشياء لارادته.” وبهذه الجملة هدم السيد علي رغيد كل مقاله الذي حاول فيه إثبات وجود الخالق بالمنطق فقط. فإذا كان وجود الله لا يخضع لشيء فهو بالتالي لا يخضع للمنطق، ويصبح من العبث محاولة إثباته. وقد سبقنا مفكرون كثيرون، منهم المسلم ومنهم الغربي المسيحي واللا ديني الذين اتفقوا أن وجود الخالق لا يمكن إثباته بالمنطق، كما لا يمكن إثبات عدم وجوده. فنجد أن ابن سينا والفارابي وابن رشد قد قالوا باستحالة الإثبات، وقال بذلك عدد كبير من فلاسفة التنوير الأوربيون.
ثم يقول السيد علي رغيد “ان الله, عز و جل, قد صرح في كتابه الكريم ان الذين يعلمون و الذين لا يعلمون غير متساويين؛ اي ان للعلم قيمة و ليس هراء بهراء. و ان كان للعلم قيمة, فان مقاييس العلم و تخيلات العلماء, التي هية ادواتهم للتفريق بين الحقائق و الاكاذيب لها قيمة ايضا؛ طالما استندت على المنطق الصلب الغير قابل للدحض.” انتهى
أولاً: نحن هنا نناقش إمكانية وجود خالق لهذا الكون، وإذا كنا لا نستطيع إثبات وجوده، يصبح الاستشهاد بما زعموا أنه كتابٌ من عنده نوعاً من تقهقر المنطق. علينا أولاً إثبات وجوده حتى نطمئن أن الكتاب من عنده. وليس هناك من شك أن الذين يعلمون أفضل من الذين لا يعلمون. ولكن المشكلة هي أن أغلب الذين يعلمون العلوم الفلسفية والعلوم الطبيعية ليسوا مقتنعين بوجود هذا الخالق. الأشخاص الوحيدون الذين يجزمون بوجوده هم رجال الدين الجهلاء الذين لم يطلعوا إلا على كتب التراث والقرآن، ويكاد علمهم بما غير ذلك يساوي علم الأميين الذين لم يتعلموا الكتابة أو القراءة.
يقول السيد علي رغيد مخاطباً السيد نهاد كامل ” ان رفضك لعبارة: “لكل مصنوع صانع, اذا لكل مخلوق خالق” هو قرار صائب و ان لم تقدم سبب هذا القرار. علماء الدين, في استخدامهم لهذه العبارة, يستعملون مبدا المسبب الكافي؛ اي ان وجود الله كاف لتسبيب وجود الكون. الا ان قاعدة المسبب الكافي تدل على ان وجود الكون لا يدل على وجود الله و قد يكون المسبب شيئا اخر, كتعاون مجموعة من الكائنات على خلق الكون (كما تصرح بعض الديانات) او تفاعل فيزيائي عظيم (كما يصرح بعض العلماء).” انتهى
وهذا منطق سليم قال به الأوائل عندما ناقشوا مسألة وجود الله، وقالوا إن البعرة تدل على البعير ولكن البعير لا يدل على البعرة. أي بمعنى أننا إذا رأينا بعرة في مكان ما يمكننا الجزم أن بعيراً قد مر بهذا المكان في زمنٍ ما، ولكن إذا رأينا بعيراً فلا نستطيع أن نجزم أن ذلك البعير قد أخرج تلك البعرة لأن بعيراً أخراً قد يكون أخرجها أو أن هناك حيواناً أخراً بعرته تشبه بعرة البعير
ولكن السيد علي رغيد يفسد منطقة بالجملة الآتية ” و الاجدر بعلماء الدين استخدام قاعدة المسبب الضروري؛ اي ان وجود الله ضروري لوجود الكون, و بالنتيجة فان وجود الكون دليل على وجود الله مع ان وجود الله لا يعني ضرورة وجود الكون.” انتهى
استعمال المسبب الضروري هنا استعمال خاطيء إذ أن أعداداً كبيرة من البشر لا تعترف بوجود خالق، وبالتالي وجود الكون لا يعتمد عليه. المسبب الضروري يكون في حالات اختصاصية شديدة التعقيد. فمثلاً إذا كان هناك مريض به عطب بالقلب ويحتاج إلى عملية جراحية لإنقاذ حياته، فلا بد أن يجري هذه العملية طبيب مختص في جراحة القلب. فلو احضرنا جراحاً مختصاً في جراحة المسالك البولية وطلبنا منه إجراء عملية القلب فسوف يتسبب في موت المريض. فإذاً جراح القلب هنا يصبح المسبب الضروري. أما وجود الكون فنحن نعلم الآن أنه حدث نتيجة الإنفجار الكبير
Big Bang.
فالإنفجار الكبير هو المسبب الضروري للكون ولولاه لما أتى الكون إلى عالم الوجود
اعتمد السيد علي رغيد على نظريتين لإثبات وجود الله بالمنطق، فقال:
-“قانون السببية: ينص قانون السببية على ان لكل حادث سبب و مسبب. أن هذا القانون هو اول قواعد المنطق, حيث انه يستند على وجود حادث (فبدون حادث لا توجد مادة للتحليل المنطقي) و مسبب (حيث ان غياب المسبب يمنع حدوث الحادث) و سبب (حيث ان قظع السبب يمنع الحادث حتى بوجود المسبب). أن رفض هذا القانون يعني رفض كل العلوم و المبادء و المفاهييم التي توصل اليها الجنس البشري منذ بدا الخليقة.”
أنا شخصياً لم أسمع بقانون السببية هذا، ولكن القول إن لكل حادث مسبب، فهو قول منطقي وعلمي. فنحن نعرف من قانون الحركة لنيوتن أن الأجسام الصلبة ثابتة وساكنة ما لم تتدخل قوة خارجية تجعل الجسم يتحرك. فمثلاً إذا كانت هناك صخرة في مكانٍ ما، فسوف تظل في مكانها إلى أن يدفها شخص أو أشخاص، مثلاً، أو يركلها بعير أو حيوان آخر، أو يحدث زلزال فتدفع قوة الانفجار تلك الصخرة لتتحرك. فنحن نجد هنا أن الحادث هو حركة الصخرة، اما المسبب فقد يكون إنساناً أو حيواناً أو جماداً مثل الطاقة الناتجة عن الانفجار. أما قوله إن لكل حادث سبباً، فهو قول مرفوض لأن سبب دفع الصخرة من مكانها قد يصعب تحديده، فقد يدفعها شخص لشعورة بالملل ولحاجته أن يفعل شيئاً يبدد به هذا الملل. أو قد يدفعا زلزال بدون أي سبب. فقطع السبب لا يمنع الحادث كما يزعم السيد علي رغيد.
القاعدة الثانية التي اعتمد عليها السيد علي رغيد هي ” أنا افكر, اذا انا موجود: ان التفكير فعل. و لكل فعل فاعل. و من السليم منح فاعل التفكير هوية “انا” دون الحاجة الى نقاش فلسفي حول قيمة وجود “انا” و ماهية التفكير.” انتهى
وهذه المقولة التي تُنسب إلى ديكارت مقولة منطقية ولا يجوز أن نتناقش حولها، ولكن السيد علي يذهب أبعد من ذلك ويقول ” بدءا من القاعدة الثانية, الانسان لايستطيع اثبات اي شيئ سوى وجود نفسه بمساوات كيانه مع هوية المفكر “انا”. و بما ان التفكير يتضمن حقائق و اكاذيب, وقائع و اوهام؛ فيمكننا ان نفرض ان كل شيئ هو وهم, و ان كل ما حولنا و كل ما نشعر به و كل المدخلات الحسية هي مجموعة من الاوهام.” انتهى
فالإنسان يستطيع، وقد استطاع إثبات أشياء عديدة منها حركة النجوم والكواكب، ووجود كهرباء في البرق، وما إلى ذلك. وليس من حقنا أن نفترض أن كل شيء وهمٌ وكل ما نشعر به هو أوهام. فأنا أشعر مثلاً بألم في ضرسي، وهذا الألم ليس وهماً بدليل أن طبيب الأسنان إذا خلع ذلك الضرس يختفي الألم نهائياً.
وبمنطق أقل ما يقال عنه أنه منطق معوج، يقول السيد علي ” أن سبب وجود الاوهام و الافكار هو فعل التفكير. و مسبب الاوهام و الافكار هو الوجود “انا”؛ اذا “انا” قادر على تسبيب و جود كائنات اخرى, الاوهام و الافكار. الا ان كل ما هو مسبب من خلال وجود “انا” لا يمكن ان يكون المسبب لوجود “انا”؛ اذا “انا” غير قادر على تسبيب وجود نفسه. و ان كانت النفس غير قادرة على تسبيب النفس؛ فانها غير قادرة على تسبيب وجود ما يساويها او يفوقها في القيمة الوجودية.” انتهى
بما أن الأنا غير قادر على تسبيب وجود نفسه، يصبح الخالق غير قادر على وجود نفسه من العدم. ثم أن الأنا يستطيع أن يتسبب في وجود ما يساويه أو يتفوق عليه. فلإنسان استطاع بتفكيره اختراع
super computer
هو أقدر من أذكى إنسان على القيام بعمليات حسابية معقدة وبتحليل المعلومات المتوفرة عنده ليأتي لنا بتنبؤات غاية في الدقة، ولا يمكن لإنسان أن يقوم بها
السيد علي رغيد قال إن الإنسان هو “الأنا” والمسبب لوجوده هو “هو”، ثم استنتج من ذلك ” ان كان وجود “هو” مؤقتا, استلزم مسببا لوجوده. و المسبب الثاني, ان كان مؤقتا ايضا, يستلزم وجود مسبب ثالث؛ حتى الى ان نصل الى مسبب دائم الوجود, لا يستلزم مسبب و لا فعل دال على الوجود. يمكن ان نمنح المسبب الدائم هوية “هو” و اعتباره مسببا غير مباشر (او مباشر) لوجود “انا”.انتهى
وإذا تتبعنا هذا المنطق نجد أن المسبب الثاني لابد أن يكون له مسبب هو الثالث، ثم الرابع ثم إلى ما لا نهاية. فمثلاً إذا حاولنا قسمة العدد عشرة على ثلاثة نجد أن الفواصل المئوية تستمر إلى ما لا نهاية. ومن العبث أن نحاول الوصول إلى آخرها. ونفس المنطق ينطبق على وجود الخالق. فهذا الكائن الذي خلقنا لابد أن يكون له خالق أتى به إلى الوجود. وخالقه كذلك لابد أن يكون له خالق، وهكذا إلى ما لانهاية له.ولو قلنا إن هذا الخالق خلق نفسه، نكون قد ضحكنا على أنفسنا لأن ذلك من المستحيلات. فكيف أتى إلى الوجود إذاً؟ رجال الدين يقولون إنه موجود منذ الأذل. ولكن هذا الجواب لا يفيدنا في إثبات وجوده. فمهما رجعنا إلى الوراء زمنياً فلن نصل إلى النقطة التي ظهر فيها هذا الخالق لأن الزمن لا حدود له.
يقول ابن رشد القرطبي في كتابه “الفصل في الملل والأهواء ةالنِحل”، المجلد الأول، ص 10 ” وإذا كان ذو أول فلا بد ضرورة من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها وهي إما أن يكون أحدث ذاته وإما أن يكون حدث بغير أن يحدثه غيره وبغير أن يحدث هو نفسه وإما أن يكون أحدثه غيره فإن كان هو أحدث ذاته فلا يخلو من أحد أربعة أوجه لا خامس لها وهي إما أن يكون أحدث ذاته وهو معدوم وهي موجودة أو أحدث ذاته وهو موجود وهي معدومة أو أحدثها وكلاهما موجود أو أحدثها وكلاهما معدوم وكل هذه الأربعة الأوجه محال ممتنع لا سبيل إلى شيء منها لأن الشيء وذاته هي وهو هي وكل ما ذكرنا من الوجوه يوجب أن يكون الشيء غير ذاته وهذا محال وباطل بالمشاهدة والحس فهذا وجه قد بطل ثم نقول وإن كان خرج عن العدم إلى الوجود بغير أن يخرج هو ذاته أو يخرجه غيره فهو أيضاً محال لأنه لا حال أولى بخروجه إلى الوجود من حال أخرى ولا حال أصلاً هنالك فإذاً لا سبيل إلى خروجه.” انتهى
وهذا يقودنا إلأى مذهب الوجودية الذي يقول إن لكل شيء ماهية ووجود. والماهية هي الصفات. فالجمادات تسبق ماهيتها وجودها، بمعنى أن النجار يتخيل في ذهنه شكل طاولة ولونها وأبعادها، ثم ينجرها من الخشب، فماهيتها قد سبقت وجودها. بينما غير الجماد يسبق وجوده ماهيته، بمعنى أن الطفل أو جنين الحيوان يولد وذهنه خالي من أي معلومة، وبمرور الزمن يتعلم الأشياء ويكتسب صفاته، أي ماهيته، فإذاً وجوده قد سبق ماهيته. فإذا كان الخالق قد سبقت ماهيته وجوده، فهو جماد لا يستحق أن يُعبد، وإذا كان وجوده سبق ماهيته، فلا بد أن يكون له خالق أتى به إلى الوجود ورعاه إلى أن اكتملت صفاته
وفي النهاية لا يمكننا إثبات وجود الخالق منطقياً كما لا يمكننا نفي وجوده بالمنطق ولو أن المعلومات العلمية المتوفرة لدينا الآن تقودنا إلى الميل إلى عدم وجوده