لا كرامة لمن لا سفيه له

د. مصطفى يوسف اللداويaustroir2

moustafa.leddawi@gmail.com

أثبتت الوقائع والأيام، وما وقع فيها من أحداثٍ جسام، وفتنٍ سودٍ كقطع الليل المظلم، زلزلت الأرض، وأضرمت النار في البلاد، وشتت الشعب، ومزقت المجتمعات، وقضت على كل روحٍ للتعايش كانت قائمة أو ممكنة بين الناس، وهي أحداثٌ أليمةٌ وموجعةٌ، وفي أكثرها محزنة، عمت الوطن العربي كله، ولم تستثنِ بلداً، ولم تترك دولة، إلا وقلبت أحوالهم، وغيرت شؤونهم، وسممت حياتهم، وضيقت عيشهم، وجعلتهم فرقاً وأحزاباً، وجماعاتٍ وتنظيمات، وثواراً وفلولاً.

أحداثٌ مريرة جعلت الحليم حيراناً، أشابت الصغير وأفنت الكبير، وأخرجت العاقل عن طوره، والحكيم عن عقله، وقلبت الموازين، وغيرت المعايير، ووضعت مقاييس جديدة، لا علاقة لها بالعقل، ولا صلة لها بالمنطق، ولا قيمة عندها للحق والعدل، وقواعد الإنصاف والحكمة، بل تتناقض مع معاني السلام، وجوامع الخير، وكليات المحبة والتآخي والمودة والتسامح والعيش المشترك.

أثبتت الأحداث أن الجعجعة هي سيدة المقام، وأن الكلام أشد من الحسام، وأن البعبعة سلاح الأهوج، وأن الكذب وسيلة الفاسد، وأن التدجيل سبيل المبطلين، وأن من ملك الأبواق يفوز، ومن اشترى الضمائر يكسب، ومن استأجر صناع الكلام يتقدم، ويصبح صاحب حجة ومالك موقف، يملأ الفضاء ضجيجاً، والكون صراخاً، بقعقعةٍ لا يسمع الناس سواها، ولا يصغون لغيرها، رغم أنهم يعلمون أن المتحدث وسيده طبلٌ، لهم صوت، ولكن داخلهم أجوف، فلا عقل ولا ضمير.

في ظل هذه الخطوب الأليمة، غاب الصدق، وغار العدل، وفقدت المصداقية، وعلا صوت الدهماء، وأحضر السفهاء، وأُقصيَ العقلاء، وأبعد الحكماء، ولم يبق مكانٌ للطيبين البسطاء، ولا للمخلصين الأمناء، ولا للصادقين الأصلاء، عندما تسيد المبطلون، وتحكم المتنفذون، فاستدعوا الجوقات، ونادوا النائحات، وشدوا الأوتار، وحموا دفة الطبول، ثم أمسكوا بمكبرات الصوت، وأصبحوا ضيوف الندوات، وأرباب الجلسات، معلقين ومستشارين، ومقدمين ومحاورين، يتشدقون بالكذب، ويزينون الكلام بالافتراء، يؤيدون من شاؤوا، ويصبون جام غضبهم على من عادوا، وغيرهم من الخصوم والأنداد، يصفونهم بما يشاؤون، وكيف يريدون، يلصقون بهم التهم، ويلحقون بهم ما يشين، ويحملونهم ما لم يقولوا، ويحاسبونهم على ما لم يرتكبوا.

في حمأة الأحداث التي لم تهدأ، وفي ظل الظروف التي تعقدت، ارتفع سعر المتحدثين، وراج سوق باعة الكلام، وتميز المتشدقون، وسما نجم من ملك صوتاً عالياً، وقدرة على التعبير مميزة، ممن يعجب الناس قولهم، ويشهد الله على ما في قلبه من الزيف والفساد، ومن الكذب والضلال، وهو ألذ الخصام.

إنهم أناسٌ جدفوا مع التيار، وسبحوا حيث يريد الأشرار، وغيروا مواقفهم وفق الحال، وبدلوا كلامهم ليناسب الظرف، ويخدم أرباب المال، وأصحاب الجاه، وقادة العسكر، وضباط الأمن، وغيرهم ممن كان لهم شأن وضاع، ولكنهم يحلمون باستعادة ما فقدوا، وتعويض ما خسروا، وانتهاز الفرصة ليستدركوا بعضاً مما فاتهم، خاصة أن عندهم من الإمكانيات ما يغري، ومن القدرات ما يشتري، فبحثوا عن أصحاب الضمائر الميتة، والقلوب المتحجرة، والنفوس المريضة، ممن يملكون ألسنةً حداداً ذات شفرات، وأقلاماً مبريةً تكتب بكل الألوان، تتقلب حسب السوق، وتمشي مع من يدفع أكثر، ولا يهمها الجهة التي تلزم، أو السيد الذي يتعهد، أو الشخص المشمول بالرعاية، والمستفيد من الحملة.

لا يهم هؤلاء أن تتناقض مواقفهم، أو تتبدل كلماتهم، أو أن تتغير مواقعهم، فأن يكونوا مع ثم ضد أو العكس، فلا بأس عندهم، ولا يوجد ما يعيبهم، إذ هم ليسوا أكثر من آلة، تعمل وتشتغل ما كان فيها وقوداً، وتتعطل وتقف ما فرغ وقودها وانتهى، ووقودهم المال، وقطرانهم هدايا من السيارات ومختلف الأجهزة الإليكترونية والمجوهرات، وزيتهم يتأثر ارتفاعاً وانخفاضاً بتغير أرصدتهم، وارتفاع حصصهم، وأرقام حساباتهم التي يعرفها المشغلون، ويسأل عنها المحتاجون، ويحفظها المتعهدون.

أما التسعيرة فهي بورصة، تكون أحياناً عادية عندما يتداول أسهمها المستفيدون داخل البلد الواحد، ولكن قيمة أسهمهم ترتفع وتزداد، عندما يدخل البورصة مضاربون دوليون، يملكون قدراتٍ أكثر، ويطمحون في إحداث تغييراتٍ أخرى، ويتطلعون لأن يكون لهم دور وفعل في المراحل القادمة.

إنهم دجالون وكذابون ومنافقون، يفترون ويتهمون ويشوهون، ويختلقون القصص، ويفبركون الحكايات، ويتهمون الأحياء والأموات، ويفترضون الوقائع والأحداث، ويرسمون السيناريوهات، ويوزعون الأدوار، ويضعون التصورات، التي تخالف الواقع، وتتنافى مع الحقيقة، ثم يدينون الخصوم، ويعقدون لهم المحاكم، ويصدرون في حقهم الأحكام التي يرون، قبل أن ينظر القضاء في قضاياهم، أو يقبل الإتهامات الموجهة إليهم، ثم يطالبون الأمة أن تلتزم بحكمهم، وأن تقبل بتفسيرهم، وأن تردد خلفهم كالجوقة، ذات الإتهامات وكأنها حقائق، ولا يهمهم إن كانت هذه الإتهامات تضر شعباً، وتلحق الأذى بمصالح قطاعٍ كبيرٍ من الأمة.

وفي المقابل يعجز أصحاب الحق عن بيان حقهم، وتوضيح موقفهم، ورد التهمة عن أنفسهم، فهم لا يحسنون استخدام ذات الأدوات، وتلويث أنفسهم بنفس الطريقة، ولا يقبلون أن يكذبوا ويفتروا، وأن يزوروا ويدعوا، وأن يشوهوا ويظلموا، ولا أن يستعينوا بالخصوم، ولا أن يتعاونوا مع عصاباتٍ متخصصة، ومجموعاتٍ مدربة، فأخلاقهم لا تسمح، ودينهم لا يجيز، وقيم أمتهم لا تقبل، فضلاً عن أن هذه المعركة في الإتجاه الخاطئ، ومع غير العدو المفترض.

فهل يخطئ أصحاب الحقوق إذا سكتوا على الظلم، وتجرعوا الإهانة، وصبروا على أذى أهلهم وأبناء شعبهم، وتحملوا الإساءات، وصبروا على الإفتراءات، ولم يردوا عليهم بالمثل، حرصاً على وحدة الأمة، وسلامة صفها، وخوفاً من الاختلاف والانقسام، وارتفاع الأصوات المتطرفة، وظهور الدعوات المتشددة، أم لا بد لهم من سفيهٍ يأخذ بحقهم، ويرفع صوته في وجههم، ويعاملهم بنفس أدواتهم، فيرد الصاع بمثله، إذ لا يرد الرطل إلا الرطلين، ولا يفل الحديد إلا حديدٌ مثله، ولا يفحم السفيه إلا سفيهٌ يبزه.

https://www.facebook.com/moustafa.elleddawi

بيروت في 10/3/2014.

About مصطفى يوسف اللداوي

د. مصطفى يوسف اللداوي • فلسطيني من مخيم جباليا بقطاع غزة، مواليد العام 1964. • معتقل سابق لتسعة مرات في السجون الإسرائيلية. • أُبعد إلى جنوب لبنان من سجن غزة المركزي بصحبة ثلاثة أخوة آخرين إلى جنوب لبنان. • دكتوراة في العلوم السياسية وليسانس شريعة إسلامية. • رئيس الكتلة الإسلامية الأسبق في جامعة بيرزيت. • ممثل حركة المقاومةىالإسلامية "حماس" السابق في كلٍ من سوريا ولبنان. • المدير العام الأسبق لمؤسسة القدس الدولية في لبنان، وأحد الذين ساهموا في تأسيسها. • عضو لجنة العلاقات العربية "سابقاً" في حركة حماس. • متفرغ منذ العام 2004 لأعمل البحث والكتابة والدراسة. • له تسعة مؤلفات أغلبها عن الصراع العربي الإسرائيلي وهي ... o الأسرى الأحرار صقورٌ في سماء الوطن "مجلدان". o الصليبية من جديد ... دفاعاً عن رسول الله. o القدرات النووية الإسرائيلية بين الغموض والإرهاب. o الإرهاب الصهيوني مسيرة شعب وتاريخ أمة. o قراءة في العقل الإسرائيلي. o القضية الفلسطينية خفايا وأسرار "حوار". o القضية السودانية بين صراع الداخل ونفوذ الخارج "حوار" o الأزمة الجزائرية جدل المعارضة والسلطة "حوار". o العدوان الإسرائيلي على غزة، جزءان "تحت الطبع".
This entry was posted in فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.