مع أنه من الصعب تصور أو تخيُّل صحة ما تحدث عنه الصحافي الأميركي، الشهير بـ«خبطاته» المعلوماتية، سيمور هيرش في مجلة: «لندن ريفيو أوف بوك» إذ إنه مستغرب جدًا أنْ تتحايل المؤسسة العسكرية الأميركية ممثلة بهيئة الأركان المشتركة على السياسات المعلنة التي يتبعها الرئيس باراك أوباما إزاء الأزمة السورية وتقوم بتعزيز بقاء بشار الأسد في الحكم وبتمرير معلومات استخبارية للجيش السوري بطرق غير مباشرة و«تتآمر» على المعارضة المعتدلة بحجة أنه لا وجود لها وتسعى إلى الحد من تسليح التنظيمات الوطنية التي اعتبرتها متشددة بل وفي بعض الأحيان «إرهابية»..
إنه لو صحت ولو بعض المعلومات التي ضمنها سيمور هيرش تقريره المطول الذي نشرته مجلة «لندن ريفيو أوف بوك»، فإنَّ هذا يعني أن هناك «لعبة أمم جديدة»، وأنَّ هناك «مؤامرة قذرة» فعلاً قد تعرضت لها سوريا وتعرض لها الشعب السوري خلال نحو خمسة أعوام ماضية، وأن هذه المؤامرة لا تزال متواصلة ومستمرة حتى الآن وإلا ما معنى أن تغيب أميركا كل هذا الغياب المريب وتترك لروسيا الحبل على الغارب ولتفعل كل ما تريده عسكريًا وسياسيًا في بلد عربي يحتل موقعًا استراتيجيًا في الشرق الأوسط وله مكانته العالمية والدولية؟!
والسؤال هنا هو: ألا تستدعي هذه المعلومات الخطيرة جدًا، التي من بينها أن هيئة الأركان الأميركية المشتركة كانت تعمل بين عامي 2012 و2014 بالنسبة للأزمة السورية خلافًا لتوجهات إدارة باراك أوباما، وأنها لجأت في خريف عام 2013 إلى خطوات ضد «متشددي» المعارضة من دون المرور عبر القنوات السياسية في واشنطن، أن يسارع الرئيس الأميركي، حتى قبل أن يذهب إلى هاواي لقضاء عطلة أعياد الميلاد وبداية السنة الجديدة، إلى تشكيل لجان تحقيق جدية في هذه الأمور الخطيرة، أمْ أنَّ كل هذا الذي جرى قد جرى بعلمه، وأن سيمور هيرش قد ذهب به الخيال بعيدًا فغلَّب الحبكة «الدرامية» على الواقع والحقيقة؟!
ثم هل من الممكن يا ترى تصور أو تصديق أنَّ هيئة الأركان في جيش كالجيش الأميركي وفي دولة كالولايات المتحدة يحكمها نظام صارم أن تعمل من وراء ظهر الرئيس وظهر إدارته وظهر الكونغرس وتقوم بتمرير معلومات استخبارية إلى جيوش أخرى، هي الجيش الروسي والجيش الإسرائيلي والجيش الألماني لتقوم بدورها بتمريرها إلى الجيش السوري ليستخدمها ضد «العدو المشترك» الذي هو جبهة النصرة وما يسمى «الدولة الإسلامية»؟!
إنه لا يمكن لا تصور ولا تصديق أنَّ الرئيس باراك أوباما لم يكن على علم بما كانت تقوم به هيئة الأركان الأميركية المشتركة، كما قال سيمور هيرش وأنه «مع بدء تدفق المعلومات من قبل استخبارات الولايات المتحدة قامت ألمانيا ومعها إسرائيل وروسيا بتمرير هذه المعلومات عن (الجهاديين) ومواقعهم وخططهم إلى الجيش السوري»، وبالطبع فإن هيرش هذا لم يفته أن يشدد على أنه لم يكن هناك أي اتصال مباشر بين الجيش الأميركي والجيش السوري، ولكنه نقل عما سماه «المستشار العسكري» قوله: «إنَّ هذه المعلومات كانت تعبيرًا عن تعاون بين مؤسسات عسكرية وليست خطة شريرة للتحايل على أوباما ودعم الأسد من وراء ظهره (…)»!!
وهنا فإن أخطر ما جاء في هذا التقرير هو الحجة التي لا يزال الروس يستخدمونها ضد المقاومة السورية (المعتدلة) والقائلة، إن سقوط نظام بشار الأسد سيؤدي إلى الفوضى وربما إلى سيطرة المتشددين على سوريا.. كما حصل في ليبيا، وحقيقة فإن هذه الحجة حجة واهية، وأنه تقف خلفها مؤامرة حقيرة بالفعل وذلك لأن بديل الرئيس السوري هو المعارضة التي التقت مؤخرًا في الرياض وهو الهيئة السياسية «الكاملة الصلاحيات» التي تم الاتفاق عليها في «جنيف1» وهو المرحلة الانتقالية التي ستديرها وتشرف عليها هذه الهيئة التي تقرر أن يشارك فيها من لمْ «تتلطخ» أيديهم بدماء السوريين من أركان هذا النظام السوري وبالطبع ودون أي استثناء للطائفة العلوية.
إن هذا مجمل ما جاء في تقرير سيمور هيرش الذي جرى تناوله على أساس أنه جاء كإثبات على أنَّ باراك أوباما كان بالنسبة للأزمة السورية كالزوج المخدوع الذي هو آخر من يعلم أو الذي لا يعلم شيئًا، وعلى أساس أنَّ الأميركيين «متآمرون»، وأنهم يظهرون للسوريين وللعرب وجهًا جميلاً في حين أنهم في السر يعملون بوجه آخر وأنهم، إذا كان هذا الذي قاله هيرش صحيحًا أو فيه بعض الصحة، فهم المسؤولون عن كل هذه المآسي التي حصلت في سوريا خلال الأعوام الخمسة الماضية وبما في ذلك هذا التدخل الروسي في هذه الدولة العربية.
والآن وفي حين أننا قبل الاطلاع على محتوى هذا التقرير، الذي يسود اعتقاد بأن مضمونه العام قد يكون فيه بعض الصحة حتى دون الحاجة إلى المصادر التي أشار إليها سيمور هيرش، كنا نعتقد أن المشكلة تكمن في «تساهل» الرئيس باراك أوباما ووزير خارجيته جون كيري وإدارته السياسية عمومًا تجاه نظام بشار الأسد وتجاه الروس والإيرانيين وأن هيئة الأركان المشتركة وكبار جنرالات الجيش الأميركي هم المتشددون، وهم كانوا، لولا قوى الشدِّ العكسي في هذه الإدارة، سيساندون الجيش السوري الحر والمعارضة السورية المعتدلة المساندة الفعلية الكفيلة بالتخلص من هذا النظام السوري الاستبدادي منذ البدايات.. أي منذ عام 2013 على الأقل.
والمهم هنا، وسواءً كان تقرير سيمور هيرش هذا صحيحًا كله أو بعضه أم أنه مجرد «شطحات» صحافية خيالية، هو إلى أين هي ذاهبة الأمور بعدما اتضحت حقيقة التدخل الروسي في هذا البلد العربي واتضحت دوافع هذا الاحتلال وأن الهدف هو القضاء على المعارضة (المعتدلة) التي هي المعارضة الفعلية وتفريغ «جنيف1» من مضمونه وكذلك «فيينا1» و«فيينا2» ومؤتمر نيويورك وأيضًا قرارات مجلس الأمن الدولي الأخير ليصبح بالإمكان إعادة صياغة هذا النظام وتسويقه مجددًا لولاية ثالثة.. ورابعة.. وألف!!
الآن يضغط الروس على المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، بينما هُمْ يواصلون حربهم الظالمة، ومعهم حراس الثورة الإيرانية وحزب الله وكل الميليشيات المذهبية، على الشعب السوري وقواه الوطنية المعتدلة لتشكيل وفد المعارضة الذي من المفترض أن يتفاوض مع ممثلي النظام في الخامس والعشرين من الشهر المقبل، وكأن دي ميستورا هذا أصبح ولي أمر شعب سوريا العريق، وأصبح هو الآمر الناهي بالنسبة لقضية أصبحت على كل هذا المستوى من التعقيد، والسبب الرئيسي هو التدخل الروسي غير المبرر إطلاقًا ومنذ البدايات وحتى الآن.
لقد رحل رئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال مارتن ديمبسي الذي حمَّله تقرير سيمور هيرش مسؤولية ازدواجية الموقف الأميركي تجاه الأزمة السورية وأصبح في عالم النسيان والسؤال هنا هو أيضًا: هل يا ترى ستبادر إدارة الرئيس باراك أوباما في باقي ما تبقى لها من وقت لتدارك الأمور واتخاذ الموقف الصحيح المفترض لوضع حدٍّ لكل هذه العنجهية الروسية وإعادة الأمور إلى مسارها السابق الذي هو مسار «جنيف1»، والمفترض أنَّ البداية هي التصدي الفعلي للحرب المسعورة التي يشنها الجيش الروسي ضد الشعب السوري وقواه الوطنية المعتدلة وفتح الطريق مجددًا أمام المرحلة الانتقالية وأمام ضرورة تنحي بشار الأسد بمجرد تشكيل الهيئة الحاكمة على أساس «جنيف1» هذه الآنفة الذكر.
ثم وإلى جانب هذا فإن المتوقع أن تبادر المعارضة الوطنية السورية، بكل قواها الفاعلة التي لا علاقة لها لا بـ«داعش» ولا بالإرهاب بكل عناوينه وأسمائه ومسمياته، إلى توحيد صفوفها وتنظيم قواها العسكرية لتستطيع مواجهة هذه الهجمة الروسية – الإيرانية المسعورة ولتضمن لشعبها الانتصار الذي إن استطاع هؤلاء القتلة الانتصار عليه وهم لن يستطيعوا فإن التاريخ سيعود إلى الوراء لأكثر من ثلاثة وثلاثين عامًا عندما ارتكب حافظ الأسد مذبحة حماه الشهيرة عام 1982 التي أطال بارتكابها عمر نظامه حتى الآن.. حتى هذه اللحظة!
*نقلاً عن صحيفة “الشرق الأوسط”