هل تعرف ما هو أقسى أنواع الركض؟ أن تعدو لكي تبقى مكانك. أن تتقدم بسرعة من أجل أن تحفظ موقعك. فعندما تخسر ما أنت فيه تكون قد تخلّفت إلى الوراء. والوراء لا حدود له. أحيانا يعود بك إلى العصر الحجري عندما كانت الناس تعيش على لقمة جارها. تنتقل من مكان إلى مكان لأنه لا بيوت لها. وعندما صار لها بيوت، صارت لها مشاعر وذكريات وحياة، فقال أبو تمام:
كم منزل في الدنيا يألفه الفتى… وحنينه أبدا لأول منزل
هذا تعبير بسيط ومباشر عن حالة نفسية بشرية يمر بها الفرنسي والعربي والهندي وأهل سواحل بحر إيجه.
يغمرك حنين دائم إلى السنوات الأولى برغم ما فيها من شظف ويأس أو شقاء. لماذا؟ لأن الضياع أسى وأنت تريد دائما أن تسترجع وليس فقط أن تحقق. ثمة لحظات غامرة في هذا الوقت الذي ضاع ولا يُستعاد. ففيه أشخاص لهم فقدان عظيم وحضور لا يُعوّض. وفيه لمحات عذبة. وفيه شرايين الطفولة والشباب الذي لا يعود يوما، ولا يعود أبدا. وقد يأتي أحيانا في الوقت الخطأ ويمضي أيضا في الوقت الخطأ. لكنه مثل كل العمر، قدر تذره الرياح خلفك وأمامك. ولا يبقى مزهّرا في حديقة ذاتك سوى راحة البال. كل شيء آخر بارقا يأتي وبارقا يمضي. سعيد من يؤتى ذكريات جميلة. ليس ذكريات غنية، بل جميلة. فلن تتذكر السيارة التي ذهبت فيها إلى موعدك على النيل. وسوف تتذكر من فيينا الحدائق وزهورها المجانية لأنه لم يكن لديك ثمن باقة ورد تعبّر فيها عن هذا الشعور الغامض الذي يصيب أبناء العشرين. أنت لا تتذكر الباقات التي صار في إمكانك أن تشتريها، عندما عدت العشرينات ولم تعد أم كلثوم موعدا بل ذكرى، ولم تعد أغنية فيروز إشارة بل أمسا لا تذكر أين كان ومن أي نافذة أطل ومعه قمره ومفتاح أوتارك.
أفكر دائما في الذين لن يكون لهم أمس يتذكرونه. في ذوي العشرين المطاردين من مكان إلى مكان ومن دون ذكرى واحدة يحملونها. في جيل اليوم الذي يعيش مثل أجيال العصر الحجري. في مئات آلاف الشباب والصبايا الذين يعيشون في الخيام بلا حديقة مجانية أو جدران منزل يحنّون إليه. كم أفكر في الملايين الذين لم نعطهم سوى الخوف والخيام. هدمنا أحلامهم وأوطانهم وربيع حياتهم. أعطيناهم مدنا مدمّرة وقرى مهجّرة وعويلا، لا غناء فيه.
أشعر بعقدة ذنب عميقة كلّما خامرني حنين إلى منزل بسيط من الحجر الرملي كان فيه جدي وجَدّتي. وكان فيه موقد وكان مرتفعا لا تغمره مياه المطر. وكان له سقف. مسكين الجيل الحالي، لا سقف إلا السماء.
منقول عن الشرق الاوسط