كنت أعرف أطال الزمن أو قصر ، سأعود إلى الكتابة كما يعود القاتل إلى مكان الجريمة . لقد راجعت كل مكاتب الاستخدام في العالم ، فأبلغوني بأن يديّ لا تصلحان إلا للقيود.
***
ولكن على الرغم مما وفّرته الحضارة الحديثة للإنسان المعاصر، من وسائل الراحة والمتعة في المأكل والمشرب والملبس، والتهوية والتكييف والتبريد، ووسائل الطباعة والنشر والسفر والتنصت والاتصالات، فإنني ما زلت أحنّ إلى الماضي البعيد، بكل ما فيه من خشونة وفراغ وشظف عيش. مثلي مثل أي انسان ما عدا الحكام، فهم لا يذكرونه ولا يريدون لأحد أن يذكّرهم به تحت طائلة القانون.
ولكن هذا لا يمنع من أنني أتجاوب وأتقبّل كل ما هو جديد ومعاصر بكل لهفة ورحابة صدر، ما عدا دفاتر الكتابة الحديثة، فعلى الرغم من روعة تصميمها، ونعومة ملمسها، وتنوّع أشكالها ومقاساتها، وجمال الطيور والأزهار ، والأطفال السعداء المكتنزين على أغلفتها، فإنني ما زلت أحنّ إلى الدفاتر المدرسية القديمة بكل بساطتها وتقشفها، وخاصة تلك التي على غلافها الأخير صورة جدول الضرب، وعلى الغلاف الأول صورة الكشّاف أو الطالب المجدّ بكتابه المرفوع في الهواء، وخطواته الثابتة الواثقة وقد كُتب تحتها:
إلى الأمام…
لا إلى : مدريد .. وأوسلو .. وواشنطن.. وتل أبيب!!
***
إنه مجرد حنين رومانسي لا أكثر ولا أقل، لأننا في الوقت الحاضر، لو وضعنا أمام النابغة الذبياني دفتراً على غلافه الأول صورة “الجوارح” وابن الوهاج برمحه ومهابته، وعلى غلافه الأخير صورة “الكواسر” وشقيف بجديلته ودبوسه، وبرؤية جديدة للجوارح ماذا يمكن أن يكتب أو يقول؟
***
فلكي تكتب، وتقرأ ، وتسمع، وتهتف، وتتظاهر، وتلوّح بقبضتك كما تريد يجب أن تكون حراً.
ولكي تكون حراً، يجب أن تكون قوياً.
ولكي تكون قوياً، يجب أن تكون منتجاً.
ولكي تكون منتجاً، يجب أن تكون مستقراً.
ولا يمكن أن تكون مستقراً في منطقة غير مستقرة.
وهذه المنطقة لن تعرف الاستقرار، مادام الصراع العربي – الاسرائيلي يستنزف كل طاقاتها. أكان صراع وجود لا حدود، أم مياه وسدود.
ولا يمكن إيجاد حل لهذه المشكلة ، إذا لم يكن هناك حد أدنى من توازن القوى بين طرفي الصراع.
ولا يمكن أن يكون هناك حد أدنى من هذا التوازن، ما دامت أميركا تمسك عن العرب وتمنع عنهم كل شيء. وتسمح لإسرائيل وتعطيها كل شيء، حتى من الحبوب العربية نفسها.
ولا يمكن تعديل هذا الموقف إلا إذا أصبح مصير العرب وقدراتهم ومقدراتهم بأيديهم.
ولا يمكن أن يكون مصير العرب وقدراتهم ومقدراتهم بأيديهم، إذا كان مصير الاتحاد السوفيتي سابقاً أو لاحقاً نصير العرب الأول، وقدراته ومقدراته لم تعد بيده.
ولا يمكن القيام بأي خطوة للخروج من هذا الطريق المسدود مالم يعترف الأوصياء الرئيسيون على الحق العربي والحق الفلسطيني بهذه الوقائع والمتغيرات الجديدة، ويؤمنوا إيماناً راسخاً بأن مواجهتها تتطلب عقليات ورؤى وأساليب عمل جديدة.
وكيف يمكن لهؤلاء أن يعترفوا بهذه المتغيرات والمعطيات الجديدة، وأن يؤمنوا بأية عقليات أو رؤى أو أساليب عمل جديدة إذا كان نصفهم لا يؤمنون حتى الآن بكروية الأرض!
***
إذن قبل تحرير فلسطين، يجب تحرير العقل العربي. ومع أن هذه المهمة أكثر صعوبة من تحرير فلسطين نفسها. فلنفترض أن الجميع آمنوا بها وبضرورة العمل على تحقيقها. فمن أين نبدأ وبأية وسائل؟
بالسيف أم بالقلم؟
بحرية التفكير أم بحرية التكفير؟
بالولاء للنظام أم للموهبة؟
باستلهام الماضي أم باستقراء المستقبل؟
بزيادة الانتاج أم بالاضراب عن العمل؟
بالتظاهرات والمسيرات في الشوارع، أم بالاعتصام بالمكاتب والكهوف والمغاور؟
بوحدة الصف الفلسطيني؟ أم الصف العربي؟ أم الصف الاسلامي وبأيها نبدأ؟
وعند الاتفاق على أي خطوة لتحقيق هذا الهدف، هل نراعي ما في المنطقة من تيارات قومية، وقطرية، وشعوبية، وأصولية، وميليشيات عسكرية وفكرية، وأطماع إقليمية، ومصالح دولية؟ أم نصطدم معها؟
وفي هذه الحالة، لكي تكتب في أي مجال، وفي أي اتجاه فأنت بحاجة إلى:
غطاء فلسطيني.
وغطاء عربي.
وغطاء إقليمي.
وغطاء دولي.
وغطاء طائفي.
وقبل كل شيء غطاء سياسي من النظام الذي يقيم أودك، ويستر عريك وآخرتك!
فهل أنا كاتب أم منجّد؟
***
ومع ذلك سأكتب وأكتب عارياً حتى وسطي كالعبد المساق إلى ساحة الجلد ولا شيء يحميني من المحيط إلى الخليج سوى الغطاء الجوي للكرة الأرضية.