السوريون من أبرع أهل اﻷرض في التجارة، يكفي التسكع لساعات قلائل في أي من أسواق الشام وسيجد المرء نفسه يشتري ما يحتاجه وما لايحتاجه بعد “مفاصلات” طويلة ما كان لها أن تبدأ أصلاً.
من سوء حظ السوريين أن السياسة الدولية تختلف جذرياً عن “سوق الحميدية” وأن الشارين الدوليين لثورتهم ليسوا من السواح مرتاحي البال الذين كانت تغص بهم حارات الشام العتيقة. ولكي تكتمل المأساة السورية، أتى ٳلى البيت اﻷبيض رجل أسمر “لايبيع ولايشتري ولايريد حتى أن يحضر البازار…”.
هذا الحديث بمناسبة مبادرة الشيخ “معاذ الخطيب” الذي قابل اثنين من سفاحي الشعب السوري في “ميونيخ” وأتبعها بمقابلة السيد “جو بايدن” المشهور بزلاته الكلامية والذي “لايحل ولا يربط..”.
مبادرة الشيخ “معاذ الخطيب” تبدو شبيهة ب “مفاصلة” مع اﻷسد و”محور الشر” من جهة ومع من يدعّون أنهم “أصدقاء سوريا” من جهة أخرى. خطوة السيد “الخطيب” وعرضه مبادلة “الحوار مع من لم تتلوث أيديهم بالدماء من النظام” مقابل ٳطلاق سراح 160 ألف معتقل وتجديد جوازات سفر المعارضين في الخارج أتت لتحرك بعض المياه الراكدة في المستنقع السوري في غياب تطورات ٳيجابية على اﻷرض.
المبادرة ليست سيئة في المطلق، فهي تفضح همجية النظام وتخاذل أصدقاء الثورة. هذه المبادرة تبدو موجهة للطرفين معاً. من المفهوم التوجه ٳلى النظام ﻹطلاق سراح المعتقلين، أما تجديد الجوازات فيتعلق “بأصدقاء سوريا” الذين يكفيهم تسليم سفارات النظام للائتلاف الذي اعترفوا به وتكلييفه بتجديد وٳصدار وثائق السوريين في الخارج، أقله من يتواجدون في دول الخليج “صديقة الشعب والثورة السوريين”. لنلاحظ أن هؤلاء “اﻷصدقاء” هم من بدؤوا بفتح النار على السيد “الخطيب” انطلاقاً من السيد “داوود اوغلو” الذي تساءل عن جدوى هكذا حوار؟ انتهاء “بالمدفعية اﻹعلامية ” لقناتي الجزيرة والعربية.
المشكلة مع المعارضة السورية أعمق بكثير من مجرد الالتزام بوثائق الدوحة أو في وجود “آراء شخصية” لدي رئيس الائتلاف، مشكلة المعارضة السورية أن لاشيء ملموساً لديها لتقدمه في بازار الدم السوري المفتوح على مصراعيه، لا شيء غير المطالبة برحيل النظام و”بعدها لكل حادث حديث…”.
المعارضة السورية تبدو كمن يبيع سمكاً في الماء، فالسيد “معاذ الخطيب” والمعارضة السورية كلها عاجزة عن تأمين “دخول آمن” ﻷفرادها ٳلى اﻷراضي السورية المحررة، فكيف لها أن تعرض “خروجاً آمناً” للأسد ؟ المعارضة السورية المتواجدة في الخارج “لاتمون” على كتيبة واحدة في الداخل تؤمن لها الحماية ٳن هي عادت ٳلى سوريا، فوق ذلك، شيوخ المعارضة كلهم “ما شاء الله” زعماء ورؤساء ووجهاء ولا أحد بينهم “يحطها واطية” لغيره لدرجة مطالبة الشيخ “معاذ” بالاستقالة فوراً لمجرد أنه خرج عن حالة الموت السريري الذي ترتع فيه المعارضة السورية بقضها وقضيضها.
المعارضة السورية تبدو وكأنها تريد من العالم الخارجي أن يعيدها لدمشق “سالمة وغانمة” ودون مقابل سوى “بوس اللحى”. خلال عامين انهكتنا هذه المعارضة بلقاءاتها ومؤتمراتها ومزاوداتها التلفزيونية مع القليل النادر من الخطاب المتزن والعقلاني. لسان حال هذه المعارضة يقول : “أسقطوا لنا هذا النظام أو ساعدونا على ٳسقاطه وبعدها نعدكم، والله علينا شهيد، اننا سنعمل ديمقراطية أفضل من السويد ولن يكون هناك مشكلة أقليات ولا تطرف ولا تعصب ومصالح الجميع ستكون بالحفظ والصون، حتى جبهة النصرة ستصبح جمعية رعاية طفولة…”.
هذه البضاعة لم تجد من يشتريها منذ أكثر من عام ومع ذلك، لم تعمل عليها المعارضة “اوكازيون” ولا حتى ٳعادة نظر.
ماذا تقدر هذه المعارضة أن تفعل و ماذا يريد العالم من المعارضة السورية ولا تستطيع هذه المعارضة تقديمه ؟ وماذا يقدم اﻷسد لهذا العالم بالمقابل ؟
المعارضة السورية متواجدة في الخارج وبعيداً عن الحدود وهي مشتتة ولا صلة تنظيمية لها مع المسلحين في الداخل. اﻷسد من جهته موجود في دمشق وهو مصدر القرار، ولو بٳيحاء ٳيراني، وقواته تبقى منضبطة لحد ما وتعمل بشكل منسق.
المعارضة السورية “تعِد” بالمحافظة على مصالح روسيا في حين يقوم اﻷسد بالخضوع بشكل كامل لكل طلبات “بوتين” بغض النظر عن السيادة السورية ومصالح السوريين.
المعارضة السورية تريد “علاقات سليمة” مع طهران في حين يتعامل الثوار السوريون مع اﻹيرانيين “كعدو مجوسي”. أما اﻷسد فهو يخضع تماماً ﻹملاءات “الولي الفقيه” لدرجة العمالة الكاملة.
يبقى السلاح اﻷمضى في يد اﻷسد وهو “تفاهماته ” مع ٳسرائيل. هذا هو “جوكر” اﻷسد الذي ضمن حدود ٳسرائيل الشمالية ﻷربعين عاماً وخلصها من كل التهديدات القادمة من جهة المقاومة الفلسطينية في لبنان وحتى خارجه. اﻷسدان اﻷب ثم الابن هما “رجلا المهمات القذرة” ﻹسرائيل ابتداء من سحق المقاومة اللبنانية اليسارية والفلسطينية وانتهاء بتحييد سوريا وشعبها ثم تدميرهما مروراً بتفخيخ الوضع الفلسطيني الداخلى عبر حماس وغيرها.
هل تستطيع المعارضة السورية أن تقدم للعالم الخارجي شيئاً لم يتنازل عنه اﻷسد سلفاً ؟ مهما فعلت المعارضة السورية فهي لن تتوصل بأي شكل من اﻷشكال ﻹتقان “بهلوانيات” التنازلات الدولية بما يضارع مهارات نظام الشبيحة.
هل تظن المعارضة السورية أنه يكفي تسمية مسيحي على رأس مجلس ٳخواني لطمأنة اﻷقليات ؟ وهل تكفي تسمية علوي معارض كممثل للائتلاف في فرنسا من أجل أن تنشق الطائفة العلوية وتعود لضميرها ووطنها ؟
هل يعتقد جهابذة الائتلاف الوطني أن من الممكن التوافق على “رئيس” للائتلاف ثم تكبيله بحيث لا يرأس شيئاً ولايقدر على أخذ زمام المبادرة في أي مضمار، ثم ٳقناع العالم أن هذه المعارضة مسؤولة ومنضبطة ؟
كيف للمعارضة السورية أن تتوجه بخطاب تصالحي للأكراد والآشوريين والتركمان وهي تجأر “بعروبتها” كأن هذه العروبة قدمت شيئاً للثورة ؟ المعارضة السورية تصر على “العروبة والقومجية” الصحيحتان، لدرجة استعمال مصطلح “العربي السوري” البعثي اﻷصل ؟! يكاد خطاب هذه المعارضة أن يكون أكثر “عروبة وربما بعثية” من النظام اﻷسدي ذاته…
في الموضوع اﻹسرائيلي، يبقى خطاب المعارضة غائماً وضبابياً، فمن جهة تتجنب المعارضة التطرق للمسألة اﻷولى في المنطقة ومن جهة أخري يؤنب السيد “معاذ الخطيب” ٳسرائيل بعد غارتها على “جمرايا” ويطالبها “بالبقاء خارج الوضع السوري الداخلي..” متناسياً أن ٳسرائيل هي الرقم اﻷصعب في الشأن السوري.
ما هو موقف المعارضة السورية من وجود ٳسرائيل وحدودها وماهو رأي أساطين هذه المعارضة فيما يخص الجولان ونازحيه واللاجئين الفلسطينيين ؟ أي “سوريا” مستقبلية تريد هذه المعارضة ؟ هل هي “سوريا ممانعة ومقاومة” لكن هذه المرة “عن جد” أو أن هذه المعارضة تريد الخروج من الورطة “الاورويلية” التي خلقها التفاهم اﻷسدي مع ٳسرائيل منذ 1974 والتي تكبل الشعبين السوري واﻹسرائيلي ؟ هذه المعادلة قوامها دوام حالة الحرب، دون حرب، وهي في صالح عصابة اﻷسد في سوريا والطغمة الاستيطانية والعسكرية في ٳسرائيل التي تحكمها ذات النخبة والعقلية العنصرية منذ عقود.
بالمناسبة، السيد “معاذ الخطيب” الذي التقي باثنين من سفاحي سوريا المباشرين، لافروف وصالحي، ما الذي منعه من التوجه بخطاب واضح ٳلى “العدو اﻹسرائيلي” الذي لم يسفك منذ قيامه واحداً في المئة من الدماء السورية التي سفكها اﻷسدان بدعم من روسيا على الدوام وبدعم ٳيراني وروسي منذ بداية الثورة ؟ هل من المقبول الالتقاء بممثل “الاورثوذوكسية” الروسي والولي الفقيه “الشيعي” لكن الالتقاء بيهودي لم يسفك دم السوريين حرام ما بعده حرام ؟
ٳن كانت المشكلة أن “ٳسرائيل” تحتل جزءاً من اﻷرض السورية فٳيران وروسيا “تحتلان” سوريا كلها بمعية جند اﻷسد.
من غير المقبول أن تستمر المعارضة السورية في تجنب المواقف الواضحة وعليها حسم موقفها في قضايا حقوق اﻹنسان، اﻷقليات، حقوق الجوار، مستقبل المنطقة والتعاون الاقتصادي. لا تستطيع هذه المعارضة الاستمرار في تجاهل كون “جبهة النصرة” ٳرهابية “ولو قالت واشنطن أنها كذلك” على حد قول أستاذنا “حازم صاغية”. هذه الجبهة “أباحت دم” اﻷستاذ “معاذ الخطيب” على لسان ٳمام ليبي في حلب، لمجرد أن الرجل طرح موضوع الحوار مع النظام ! من يريد مثالاً أوضح على الطبيعة الظلامية العميقة لهذه الجماعة التي “تكفّر” الناس بالجملة ؟
أين الخطاب اﻷخلاقي واﻹنساني
humanist and universal))
للمعارضة السورية ؟ ليس كافيا الحديث في العموميات واجترار ذات الخطاب المعلب والمكرور
حول “غياب الطائفية” في سوريا ما قبل اﻷسد وحول “الشعب السوري الواحد” الموروث من الخطابين البعثي واﻷسدي، أما آن أوان تبني خطاب ٳنساني وحقوقي مختلف جذرياً عن البلاغات اللفظية الموروثة من الحقبة القومجية؟
باختصار، ٳلى متى تستمر المعارضة السورية في ممارسة السياسة على مبدأ “لاعبي الكشاتبين”؟
أحمد الشامي فرنسا ahmadshami29@yahoo.com
نشرت في بيروت اوبسرفر في السادس من شباط 2013