هذا هو رابط الحملة
http://www.ehamalat.com/Ar/sign_petitions.aspx?pid=593
كُنْ أنت مؤرخ الشعب الموازي لمؤرخ السلطان !
التاريخ ليس سوي كذبة متفق عليها، هذه المقولة اكتسبت أهميتها و احتفظت بحيويتها و حضورها القوي حتي الآن لا لذاتها، إنما لذات قائلها،فقد صدرت عن أحد القلائل الذين كانوا يعرفون أكثر مما يجب، و أحد القلائل الذين أرغموا التاريخ علي أن يكون خادماً في بلاطهم، يلتقط كل ما ينتمي إليهم من نزوات و يختزنه للمؤجلين صاغراً، إنه” نابليون بونابرت ” مصدر هذه المقولة، وهي مقولة تليق به إلي حد بعيد و تشبهه، حادة و دقيقة و عبقرية و شبه حقيقية و كاشفة و مشحونة بطاقة داخلية تمكنها من تجاوز الزمن، كل زمن، إلي نسق من الصيرورة، تماماً كقائلها الجلل ..
التاريخ ليس سوي كذبة متفق عليها، هذه حقيقة ناقصة !
نعم، التاريخ الرسميُّ يكتبه المنتصرون علي الدوام، و يحرسون علي الدوام التصاقه بالذاكرة القومية بشتي الصور، و كل ما التقطه التاريخ من أحداث سلبية عن أحد المنتمين إلي السلطة، أو عن أحد الحكام، كتبه مؤرخو البلاط أيضاً، لكنهم مؤرخون من زواية أخري في البلاط، و هؤلاء يولدون دائماً من خلال الأجنحة المتصارعة في كل أسرة حاكمة !
و لولا خلاف داخلي نشب بين قطبي ” الوفد ” في ذلك الوقت، ” مكرم عبيد “، و ” مصطفي النحاس “، ما كان ” الكتاب الأسود “، و ما كنا لنعرف شيئاً عن استغلال ” زينب الوكيل، ” زوجة ” مصطفي النحاس ” الشابة، لنفوذ زوجها، و ضلوعها في الكثير من جرائم الفساد، حتي أن منطقة ” الهانوفيل ” بمحافظة ” الإسكندرية، سميت بهذا الاسم نسبة إلي ” عبد المنعم هانو “، أحد أقارب تلك المرأة، و تم رصف الطريق الطويل المؤدي إلي تلك المنطقة التي كانت في ذلك الوقت بكراً، بالأمر المباشر منها، خارج سيطرة الدولة ..
كذلك، الصراع السياسي بين ” عدلي يكن ” و ” سعد زغلول ” أضاء مناطق مجهولة من شخصية الرجلين ..
لقد كان هناك علي الدوام، و في كل زمان و مكان، مؤرخون موازوون لمؤرخي البلاط، يسجلون في الظل الجانب الآخر من الحدث، و بفضل هؤلاء وحدهم فشلت علي الدوام مكائد السلطات لتزييف التاريخ ..
” نابليون ” نفسه انزلق في شراك هؤلاء، و فضحوا بداياته الوصولية، و خيانة زوجته ” جوزفين ” له مع كل نبلاء ” فرنسا ” في ذلك الوقت تقريباً ..
و ” مصر” نموذجاً ..
بفضل مؤرخي الظل، نجونا من مكيدة مؤرخي بلاط ” رمسيس الثاني ” الذين خلدوه علي جدران المعابد، نقوشاً و كتابة، كإله يقاتل ” الحيثيين ” في معركة ” قادش ” بمفرده، و يفر ” الحيثيون ” من أمامه مذعورين و قد خسروا الكثير من الضحايا، بين قتيل أو أسير أو مفقود !
بسبب هذا النقش تحديداً، اعتقد الكثيرون من علماء المصريات الأجانب، لأن هؤلاء المساكين ” مبيعرفوش فرعوني “، أقصد الأساليب لا اللغة، أن طول قامة ” رمسيس الثاني ” كان يبلغ ” 11 ” متراً، و هو ارتفاع تمثاله، و ظل هذا الاعتقاد سائداً في الأوساط العلمية حتي اكتشفت في الجانب الآخر وثائق هذه المعركة، و هي مكتوبة بالخط المسماري بواسطة أحد المؤرخين الحيثيين، وبات جلياً أن ” رمسيس الثاني ” وقف في هذه المعركة علي مشارف الضياع أكثر من مرة، و أن الحرب كانت متوازنة، لا إلي هؤلاء و لا إلي هؤلاء، لذلك، اضطر ” رمسيس الثاني ” أن يوقع مع ” الحيثيين ” معاهدة “
سلام الشجعان “، يرجحون أنها أقدم معاهدة سلام في التاريخ !
لقد فضل ” رمسيس الثاني ” ألا يخسر عمره من أجل مجد زائل، أما المصريون البسطاء فهو كفيل بهم، قليل من الاحتفالات و النقوش و أغاني النصر و حزمة أكاذيب من مؤرخي بلاطه و ينتهي كل شئ، و هو، ربما اعتقد في ذلك الوقت أن ” الحيثيين ” لا يجيدون الكتابة !
كذلك، تآمر كهنة الإله ” آمون ” علي محو اسم، لا مجرد تشويه سيرة، الملك ” إخناتون “، أول موحد في التاريخ، و الثائر السابق لأوانه، من كل نقش ذكر اسمه فيه، كأنه لم يكن، نقمة منهم عليه بسبب الطعنة التي وجهها إلي خاصرة ” آمون ” و امتناعه عن عبادته، و اختراعه إلهاً خاصاً به، الإله ” آتون “، و هو لم يكتف بكل هذا، بل نقل عاصمة ملكه من ” طيبة “، مدينة ” الأقصر ” الحالية، إلي أفق جديد يلائم إلهاً جديداً، أفق ” آتون “، أو أفق قرص الشمس، مدينة ” أخت آتون “، مدينة ” تل العمارنة ” الحالية بمحافظة ” المنيا ” !
كأنه استوعب في ذلك الوقت المبكر، في واحدة من الحقائق القليلة بطول التاريخ و عرضه، التي تجعل المرء يشهق من فرط الدهشة، أن الثورة، لتنجح، يجب أولاً اقتلاع النظام القديم من جذوره ليبدأ بعد ذلك البناء علي أنقاضه، و يعزز من قوة الإيمان باستيعاب ” إخناتون ” لهذه الحقيقة مبكراً، ما طرأ علي الفن في عصره من ثورة علي الأساليب القديمة !
تلك المفردات الغريبة التي ازدحم بها الشعر، و تلك الوجوه الطولية السائلة التي أبدعها فنانو تلك الحقبة البعيدة، و رقبة ” نفرتيتي ” زوجة ” إخناتون “، و معني اسمها في الهيروغليفية ” الجميلة أشرقت “، تلك الرقبة التي جعلت ” هتلر ” يقف علي مشارف الجنون، و يقتنيها لنفسه، بل كان تأملها هو قهوته الصباحية !
علي كل حال، لقد فشلت، بفضل مؤرخي الظل، حيلة الكهنة، و سكن ” إخناتون ” في النهاية الكوكب الذي يستحقه، في جوار ” قرص الشمس “، ” آتون “، و سكن الكهنة في النفايات، و هذه بارقة أمل، فالنهايات ليست كما تبدو في الظنون أحياناً !
كذلك،
التاريخ لا يستنكف أن يضع الجنود المجهولين في الظل، لذلك، لم يلتقط التاريخ الرسمي من حقبة بناء الأهرامات سوي ما يتعلق بالملك ” خوفو ” و كهنته و كبار موظفيه، مع ذلك، لحسن الحظ، كان بعض عمال الأهرامات أذكياءً بالقدر الذي ألهمهم أن يرسلوا لنا، عن غير عمد، في أوقات فراغهم، و تعب النهار يتمطي في أعضائهم، رسائل مهمة، بل شديدة الأهمية،
قالوا في بعضها أن الموظفين كانوا يوزعون علي كل عامل حصة من البصل و الثوم، فاقت في النهاية مليوني كيلو !
و تأكد لنا فيما بعد أن أحد عمال الأهرامات أجريت له في ذلك الوقت المبكر عملية ” تربنة “، و أن أحدهم أجريت له عملية ” بتر ” و عاش بعدها سنين كثيرة !
و بالقياس، نستطيع أن ندرك الآن أنهم قد أسسوا حول منطقة الأهرامات مجتمعاً حقيقياً، بدفئه و حرارته و نمائمه و طقوسه و آلامه و مشاجراته الصغيرة، و بالتأكيد الزائد عن الحد قد اصطحب بعضهم عائلاتهم إلي هناك، و أقاموا لها مساكن ارتجالية بالقرب من عملهم، و لابد أن هذا المجتمع الناشئ قد اجتذب الكثيرين من الذين يتسللون إلي كل منطقة زحف العمران عليها حديثاً، كبائعي اللوتس و بائعي البردي و بائعي السمك المجفف و بائعي الترمس و بائعي البخور و بائعات الهوي، و لهذا المجتمع بالتأكيد خيوط في نسيج سكان منطقة ” الجيزة ” حتي يومنا هذا !
لعله أصبح واضحاً، أننا بفضل مؤرخي الظل من عمال الأهرامات، عن غير عمد، استطعنا أن نري في ضوء مبهر مناطق حرص مؤرخو البلاط علي تعتيمها، أو لم يكترثوا لإضاءتها علي وجه الدقة، إذ كان المحور الذي يدير حوله المؤرخون الرسميون كتاباتهم علي الدوام هو الحاكم !
لا جديد تحت الشمس، كما قيل ..
كذلك، بفضل ” مؤرخي الظل ” من المصريين المغلوبين، عرفنا بشاعة ما اقترفه الملك البابليُّ ” نبوخذ نصر ” بدم بارد في مواطنيهم ..
كذلك، ما اقترفه الحاكم الفارسي ” قمبيز ” الذي بلغت به القسوة عليهم أن قتل إلههم المقدس ” العجل أبيس ” في يوم احتفالهم بعيده، و منذ ذلك اليوم انحسرت عبادة ” العجل أبيس ” و فقد الكثير من قداسته في قلوب المصريين !
” مصر ” أيضاً كانت في ذلك الوقت قد فقدت شخصيتها و أصبحت مجرد نزهة لكل محتل، و حتي كتابة هذا السطر !
و جاء ” الاسكندر “، و مات ” الاسكندر “، و ترك خلفه للمصريين وردة خالدة و طليعية، أقصد مدينة ” الاسكندرية “، و ترك خلفه كذلك ” البطالمة” يحكمون ” مصر ” من هناك، حتي وضعت ” كليوباترا “، حداً لسيطرة تلك السلالة علي ” مصر “، و لا أرجمها باللوم هنا، و لا يستطيع أحد أن يرجمها باللوم، لقد فعلت أقصي ما تستطيع، و لقد ورثت الملك عن أبيها متآكلاً بالفعل و رخو المفاصل، و كانت دوائر النهاية توشك علي الاكتمال، ليرث الرومان عنها ” مصر ” سهلة و سائغة و وديعة !
و ادعي، بعد ذلك بعقود، الحاكم الروماني ” جوليان “، تقرباً للمصريين، أن ” العجل أبيس ” هو إلهه المفضل، تماماً كما ادعي ” نابليون ” الاسلام بعد ذلك بمئات و مئات السنين، تقرباً إليهم، لكن ذلك لم يكن كافياً ليوقظ عبادة ” العجل أبيس ” في النفوس مجدداً، كانت نجوم كثيرة قد فقدت وضوحها !
و ذهب الرومان و انحسروا، و جاء العرب يحملون فكرة واحدة، تحطمت في غضون مئات السنين إلي مذاهب و نحل، وكان يجب أن يكون للخلافات الناجمة عن انقسام الفكرة الإسلامية أثرها علي ” مصر “، فتمتعت لفترة بالحكم الذاتيِّ إبان ” الدولة الطولونية ” و ” الدولة الإخشيدية “تحت ظلال خلفاء بني العباس في الظاهر فقط، و كدولة مستقلة في الباطن !
ثم، سقطت ” مصر ” فجأة في فجوة الحكم الشيعيِّ خلال حكم ” الفاطميين “، هنا عند كل شئ، و هنا المصدر الجذري للكثير من الأمراض التي تعاني منها ” مصر ” الآن، لقد كان اليهودي المتحول ” يعقوب بن كلس ” هو صاحب فكرة إنشاء ” الجامع الأزهر ” الذي كان منذ ذلك الوقت نصيراً للسلطة ضد الشعب، و كان، منذ ذلك الوقت، ” جلاد المجددين “، و كل الذين يغردون خارج سرب البلاط ..
من الجدير بالذكر أن ” مصر ” كلها في ذلك الوقت كانت شيعية المذهب، و كانت ” ايران ” دولة سنية، و هذا دليل باهظ علي أن الدين هو الخادم في بلاط السياسة، لا العكس !
و اختبر الأكراد بدورهم الطريق إلي ” مصر ” و قوضوا الدولة الفاطمية، و قامت دولة الأيوبيين علي ركامها، لتولد، بعد عقود قليلة، من رحم دولة ” بني أيوب “، في مفاجأة مشوهة الملامح، ” دولة المماليك “، و تصبح السلطة في ” مصر ” لعقود و عقود حكراً فقط علي الذين حملتهم أمواج أجنبية القسمات، من كل أركان الدنيا، إلي أسواق النخاسة العربية !
و ورث العثمانيون، بقيادة السلطان ” سليم الأول ” تركة المماليك، و ظلوا يجلدونها بسياطهم و يستحوذون علي مقدراتها حتي أصبحت ” مصر ” في نهاية القرن الثامن عشر مجرد صندوق لتبادل الرسائل السياسية بين ” أوروبا ” الصاعدة، و المتصارعة في نفس الوقت، و بين ” تركيا ” التي تواصل ضمورها، رجل آسيا المريض، و من خلال هذا الثقب تسلل الفرنسيون بقيادة ” نابليون بونابرت ” و استولوا علي ” مصر ” لثلاث سنين فقط، هي أكثر فترة في تاريخها رقياً و جمالاً، و اقرأوا تاريخ ” الجبرتي ” لتعرفوا لماذا خلعت عليها هذا الوصف !
و في وثبة من وثبات الصدفة الحيوية، آل حكمها، بعد رحيل الفرنسيين بعطورهم الجارحة، إلي تاجر الدخان الألباني الماكر، لكن العبقري الممتاز في الوقت نفسه، ” محمد علي “، لتحتفظ أسرته بملك ” مصر ” حتي انقلاب ” عبد الناصر ” الشهير !
عسكر، عسكر، عسكر، تكرار، و حتي كتابة هذه الكلمة ..
و العسكر أيضاً، بقيادة ” أحمد عرابي “، هم الذين قدموا ” مصر “، في واحدة من كبري ملاحمهم الكثيرة في الحماقة، هدية علي طبق من ذهب للإنجليز الذين ظلوا يحكمونها من وراء الكواليس المضيئة حتي بعد انقلاب ” يوليو ” بسنوات !
لم يأت ” عبد الناصر ” ليحرر المصريين كما غرس مؤرخو البلاط في هواجس البسطاء، إنما جاء ليحرر ” مصر ” من حكم ” الملك فاروق “، و ثمة مسافة رحبة بين العبارتين، و إذا استطاع عقلك أن يقطع هذه المسافة بينهما، ستكتشف، ببساطة الماء، لماذا نجح انقلاب ” عبد الناصر “، عدو الإمبريالية العالمية الرأسمالية الحلزونية العلمانية المهلبية الانكشارية المشمشية المتعفنة، كما علَّمكَ مؤرخو البلاط !
و تاريخ ” مصر ” منذ ” عبد الناصر ” و حتي الآن لا يحتاج إلي إضاءة، إنه قصة شهيرة و طويلة و أحداثها محتفظة بلياقتها من القمع و الفساد و انتهاك كرامة الإنسان، و قصة بلد قد تخثر، و أصبح في المؤخرة !
هذه، تقريباً، هي الخطوط العريضة لتاريخ ” مصر “، و هناك، علي الدوام، شئ رقيق للغاية، و دقيق للغاية، يضيع ..
غابات من الأعوام مرت، ظل المصريون خلالها يواظبون علي حراسة وجودهم السلبي علي الهامش، يصطفون لمشاهدة موكب السلطان، كل سلطان، و يرقصون من أعماقهم في أعراس السلطان، و يبكون من أعماقهم في مآتم السلطان، و جنود السلطان، و حاشية السلطان، و حلاق السلطان، و حامل نعل السلطان،
و يصطفون أيضاً لمشاهدة الجيوش العائدة و الجيوش الذاهبة، الممولة بالضرائب الفاحشة التي حصلها جباة السلطان من جيوبهم هم، و إن بالجلد، و يبدعون النكات في خلواتهم، و يمارسون الجنس في كل وقت، و أي وقت، لينجبوا مصريين صغاراً، رغبة منهم في التمدد من خلالهم في حياة أخري بديلة، أو حياة آخرة بديلة، و هذا كل شئ، و هنا، لا يملك المرء إلا أن يعجب كيف نجا هذا الشعب من الإنقراض، أو الذوبان علي الأقل، كيف ؟!
تاريخ المصريين كتبه الآخرون، هذه بديهية مشمسة لا تحتاج إلي تأويل، لكن، هناك بديهيات تولد في الظل أيضاً ..
و بفضل مؤرخي الظل وحدهم، عرفنا، كيف كان المصريون يسخرون من ” الرومان ” في خلواتهم و يجلدونهم بنكاتهم، و كيف كان ينظر الولاة، و لا أستثني أحداً،إلي المصريين كقطيع أقلَّ يسكن مزرعة خلفية لبيت مال المحتل !
و عرفنا بفضل المتنبي و غيره، و لقد لعب الشعر، دوراً مفصلياً في تعرية ما وراء الكواليس في كل زمان، أقول، عرفنا، بفضل المتنبي، أن الإخشيدين كانوا خصية سوداً، و بخلاء، و هو شعر علي كل حال، و أجمل الشعر أكذبه !
لكن، كان هناك لون من الشعر لا يجوز الكذب فيه، لعب دوراً مهماً في تعرية الأحزان المحتجزة في أعماق المصريين منذ آلاف السنين، يتوارثونها جيلاً فجيلاً، و هو الرثاء الشعبي، أو العديد علي الموتي !
كما عرفنا كيف كان ” الطولونيون ” يبذرون الأيام و الليالي في ظلال من الترف الأسطوريِّ، حتي أن حفل عرس ” قطر الندي ” حفيدة ” أحمد بن طولون “، كان الحدث الأبرز في لهجات سكان ذاك الزمان، بل، لم يسمع الناس عن مثله إلا في كتاب ” ألف ليلة و ليلة “، و من أموال الضرائب التي حصَّلتها الدولة ” الطولونية “، بالسياط أحياناً، و بنزع الملكية نادراً، من المصريين أيضاً !
حادثة مؤلمة رواها بعض مؤرخي الظل عن أجدادنا، تفصح بوضوح عن شخصية المصريين تماماً ..
لقد ذهب ذات يوم جابي الضرائب إلي قرية من قري الوجه البحري، بصحبة ” صراف المال ” و ” الجلادين ” و تجريدة من العسكر كالعادة، و ادعي الفلاحون أنهم معدمون ليس لديهم ما يدفعونه، فجردهم العسكر من ملابسهم، و بدأ الجلادون عملهم، و حدث أن أحد الفلاحين العراة، ضرب مئة جلدة، و حين أصبح الوجع أكبر من احتمال جسده، سقطت من فمه العملة المعدنية التي تفي بقيمة الضريبة المقررة عليه !
قصة مؤلمة، لكن الأكثر إيلاماً، هو أنهم، عقب كل مهرجان جلد كذاك المهرجان، كانوا في حلقاتهم المسائية الساهرة يمتدحون الفلاح الذي نال أكبر عدد من السياط قبل أن تسقط العملة المعدنية من فمه !
و الحديث شجون ..
عرفنا أيضاً، بفضل مؤرخي الظل، سبب ميلاد ” سيرة عنترة بن شداد” التي استحوذت في ذلك الوقت علي عقول كل المصريين، حتي قيل أن أحد المصريين كان يستمع في مقهي إلي أحد رواة تلك السيرة، و أنهي ” الراوي ” أحداث تلك الليلة بعد أن وضع ” عنترة ” في السجن، ربما للتشويق، رجع الرجل إلي منزله فلم يستطع تناول الطعام و لا النوم، فما كان منه إلا أن ذهب إلي بيت ” الراوي ” و منحه عن طيب خاطر نقوداً، و هو يقول :
– لا أستطيع النوم، اكمل، حتي تخرجه من السجن !
كان سبب ميلاد ” سيرة عنترة بن شداد ” هو ريبة، أو فضيحة، حدثت في دار الخليفة، لعله ” العزيز بالله “، فأراد أن يشغل الناس عن تناولها بألسنتهم، أو محاصرتها في المدي الذي انتشرت فيه علي الأقل !
كأن إلهاء القطيع كان إحدي حيل السلطة منذ قديم الزمان !
و بفضل ” ابن مماتي “، عرفنا فداحة الظلم الذي طال المصريين من وزير ” صلاح الدين الأيوبي “، و نائبه في حكم “مصر ” الأمير ” بهاء الدين قراقوش “، فلـ ” ابن مماتي ” فيه كتاب اسمه ” الفاشوش في حكم قراقوش “، جلده فيه بالنيابة عن كل المصريين بضراوة بالغة، و الفاشوش هو الصفر، كما احتفظت ذاكرة المصريين بذكري هذه الحقبة، و ما زال المصريون يقولون :
– هو حكم قراقوش ؟!
و بفضل هؤلاء أيضاً، عرفنا أن ” الظاهر بيبرس ” اغتال ” ” سيف الدين قطز ” بعد معركة ” عين جالوت ” مباشرة، و هذه الحادثة لم يمسها أو يقترب منها حتي صناع فيلم ” وا إسلاماه “، فهو باب مشرع علي ظنون مضرة في حقيقة العسكر !
و بفضل مؤرخ الظل ” ابن إياس الحنفي “، و ما ترك لنا في كتابه الجميل ” بدائع الزهور في وقائع الدهور “، عرفنا فداحة الظلم الذي كان يقع أجدادنا تحت طائلته جيلاً بعد جيل، و عرفنا بشاعة القائمين علي أمور الحسبة، كـ ” الزيني بركات بن موسي ” جيلاً بعد جيل، و قسوة جباة الضرائب للخزانة السلطانية، و المجاعات، و أصبح لدينا، بشعيرة بسيطة أداها في الظل، العظيم ” ابن إياس “، قاعدة بيانات مهولة عن بعض حقبة ” المماليك ” الرديئة !
حتي الحوادث التي يعتقد الحمقي أنها تافهة، تسربت إلي أصابع ” ابن إياس “، و وشي لنا عن أرمني كان يذبح الكلاب و يبيعها علي أنها لحوم ضأن، و هذه حادثة مهمة، ربما، لأن كل الحوادث الجلل هي قبل كل شئ منظومة من الحوادث التافهة، وهل قصة الحرب العالمية الأولي سوي قصة لحظة طيش من شاب صربيٍّ قتل ” فرانز فيرديناند ” ولي عهد ” النمسا ” ثم يتضاءل كل شئ ؟!
كذلك، تلك الحادثة التي رواها ” ابن إياس “، و التي قد يعتقد الحمقي أنها تافهة، ربما تفسر لنا سبب مذبحة الأرمن علي أيدي العثمانيين !
و لا يمكن أن نتجاهل في هذا الصدد، ما للمستشرقين من حضور في تاريخ الظل، كـ ” ادوارد لين ” مثلاً، و هو أحد الذين أضاءوا عتمة بيوت العامة من المصريين و طقوسهم و ما يدور حتي في غرف النوم المصرية إبان تلك الفترة تحت سيطرة الإنجليز، و إن أنس لا أنسي ما تركته في أعماقي لحظة استطاع هو أن يثبتها بقلمه، كان يتحدث عن المتسولين، ثم قال، و أنا أكتب الآن أسمع من الخارج صوت إحدي السائلات تنادي، لله يا محسنين، كنت كأني أسمع أنا أيضاً صوت هذه المسكينة حياً دافقاً، بل كأني كنت أري صوتها !
لكن، مع مجئ ” عبد الناصر “، اتخذت الأمور منعطفاً غريباً، ليس له صيغة تاريخية سوي في ” الإتحاد السوفيتي ” في عهد ” ستالين “، و سوي في ” ألمانيا ” في عهد ” هتلر ” الكئيب، إذ أصبحت كتابة التاريخ حكراً علي أجهزة الدولة الرسمية و مخابراتها، و تخللت أصابع السلطة في السينما و الأدب و الشعر، يحاصرون بقناعاتهم الخاصة، و طريقتهم في النظر إلي الأمور، حتي الهواء الذي يتنفسه البسطاء، و هنا، المصدر الجذري لمرارة الواقع المصري من جميع جوانبه ..
من الجدير بالذكر، أن محاولة الترويج مؤخراً لاختراع الشريف ” عبد العاطي ” الذي يعالج الإيدز و فيروس سي و كل الفيروسات و الحصبة و البهاق و البرص و يحولها إلي أصابع ” كفتة ” مشوية، كحقيقة لا تقبل القسمة علي اثنين، و لا الجدل، هو الأسلوب المعتمد في الترويج للنظام منذ الخمسينيات، أكاذيب متواصلة و متماسكة، لكن، لحسن الحظ، لقد تجاوز الكثير من المصريين مرحلة الطفولة الفكرية، و تغيرت ألوان الجدران، و بلغ الكثيرون الفطام !
و الآن، و أكثر من أي وقت مضي، هم يحتاجون عشرات السنين لترميم هيبتهم، و لإعادة ترتيب أعماقهم ليتقبلهم المصريون مجدداً، أو يحتاجون إلي مزيد من القمع، و الزحف الحرام إلي الأمام علي الدماء البريئة !
لقد اخترت ” مصر ” نموذجاً لأنها وطني المنتهك، و لأنها فجر الضمير الإنساني، لذلك، لابد أن يجد سكان كل بقعة في العالم في تاريخ أوطانهم صدي لتاريخها، حتي سكان ” أوروبا “، قبل أن يلتقطوا من جيوب التاريخ، و بعد اختبار كل أساليب الحكم، ذلك القانون الأنبل لحياة بيضاء، و عادلة، و صاعدة، و لائقة بإنسانية الإنسان، ما عدا ” روسيا ” التي لم تبرأ بعد من أمراض الماضي، فهي جارتنا في القرون الوسطي ..
و التاريخ ليس مجرد سرد لحكايات كتبت لتسلية المؤجلين قبل النوم، إنما هو أجراس تدق بصيغ الواقع التي كانت معتمدة في الماضي، ليثور الذين يهمهم أمر المستقبل علي السئ منها حتي ينهار، و يبنون من أنقاضه واقعاً أنبل، و يتمسكون بالجيد منها و يسيرون به نحو الأفضل، التاريخ هو انعكاس الحياة !
و تاريخنا مزيف، و محاولات تزييفه نشطة، وسيواصلون تزييفه علي قدم و ساق، و لهذا، لا يمكن أن تدخل ” مصر ” من باب المستقبل بماض ٍ محرف، كيف يُبني بيتٌ من أطلال بيت ٍ لا وجود له من الأساس !
و لهذا، أرجو من كل الذين تورطوا في حمل جنسية هذا الوطن، من الماء إلي الماء، أو من المحيط إلي الخليج، أن يكتبوا تاريخهم بأنفسهم، بالتوازي مع مؤرخي السلطة، من أجل المؤجلين إن لم يكن من أجلنا، و ما أهون أن يتحقق هذا في عالم أصبح بإمكان كل من يريد، و في أي بقعة من العالم، أن يري بالعين المجردة ما يدور في أي بقعة من العالم و هو يسترخي في فراشه ..
صفحة علي وسائل التواصل الاجتماعي لكل مؤرخ موازي باسمه، أو باسمه المستعار، أو مدونة، يضع فيها و هو يسترخي في فراشه كل أحداث يومه، أو أحداث محيطه، مهمةً كانت أو تافهة، فالأحداث المهمة و المصيرية كما قلت من قبل هي منظومة من الأحداث التافهة، و بأي لغة، سواءً الفصحي أو العامية الدارجة، فاللغة في النهاية مجرد وعاء لفكرة، بل العامية في كتابة التاريخ أجمل، و في سرد النكات أيضاً، مع الأخذ في الإعتبار أن نصف كتاب ” بدائع الزهور في وقائع الدهور ” لـ ” ابن إياس ” مفردات عامية قد تثير الآن ضحكاتنا !
أتمني أن يحدث هذا لكن بشرطين لا ثالث لهما :
1 – لا تتعامل مع التاريخ بمنطق الرحالة، و تكتب أكاذيبك الخاصة، كمؤرخي البلاط ..
2 – احتجز مشاعرك الخاصة في مكان بعيد عن متناول حروفك، فالمؤرخ ليس ناقداً، و لكي تكون محايداً، لا تكتب و أنت غاضب، و اكتب ما رأيت لا ما سمعت ..
إذا تحقق هذا، أعدكم بحجر كبير في مياه الوطن الآسنة، و الآثمة، سوف تثور له سواحل بعيدة، و سوف يكون لنا و للذين سيأتون من بعدنا تاريخ حقيقي، نلجأ إليه عند الحاجة !
في النهاية ..
أعلن تنازلي عن ملكية الفكرة، فهي ملك لكل متحمس لها ..
محمد رفعت الدومي