محمد آل الشيخ
منذ أن بدأت الكتابة بشكل دوري منتظم كنت على يقين أن ظاهرة الصحوة هي ظاهرة طارئة، لا يمكن أن تستمر، ومصيرها أن تنتهي يوما ما، لأنها لم تكن صحوة كما يصفها أصحابها، إنما كانت عودة وانتكاسة إلى الماضي، ورفض للتطور الاجتماعي، وإن صبغوها بصبغة دينية هدفهم أن يمنحوها مناعة ضد من يخالفونها، ويقفون ضد سطوتها وتسلطها. فهي ظاهرة ضد التاريخ وضد التطور وضد كل منجزات واكتشافات ومبتكرات الحاضر، ومن المسلمات الاجتماعية أن الزمن يتجه نفس اتجاه عقارب الساعة، ومن حاول أن يقف ضد توجهه فإن عجلات التقدم سوف تطأه لا محالة.
الصحويون في الغالب لا يقرؤون إلا التراث القديم، ويعيشون في أجوائه، ويتقمصون شخصيات هذا الماضي أو يحاكونها، ويرفضون أن يعيشوا عصرهم، بل كانوا (يعيرون) مناوئيهم بالعصرانيين، وكأن الماضوية من متطلبات الهوية أو مقتضيات الدين. كما أن من أهم ملامح الصحوي الذي تبدو واضحة في أطروحاته وحججه في مناقشاته وحواراته (تقديس) الفقهاء، واعتبار أقوالهم وما يقولون كأنها من الثوابت التي لا يجوز نقاشها فضلا عن التشكيك فيها، مهما اعتراها من الخلل في سياقاتها المنطقية التي لا يمكن أن يقبلها العقل السليم.
وأتذكر أنني كنت في نقاش مع صحوي شاب، فجرّنا الحديث إلى ما كانوا يسمونه (عقيدة) الولاء والبراء، التي تدعو إلى كراهية غير المسلمين إطلاقا؛ قلت له: لو كانت هذه المقولة صحيحة لما أجاز الإسلام للمسلم أن يتزوج من كتابية، نصرانية كانت أم يهودية، لأن من غير المعقول أن تكره أو بلغتهم أن (تتبرأ) من زوجتك التي ربما تكون أيضا أم أبنائك؟.. هنا أحس المسكين بالحرج، وأحس أنها حجة قوية، لكن شيخه الذي يقدسه، يستحيل أن يخطئ، فلجأ إلى المكابرة والمغالطة الغبية؛ قال: زوجتك الكتابية يجوز لك أن تطأها وتتمتع بمعاشرتها، ولكن لا يجوز لك أن تحبها، لأنك إذا أحببتها ستأثم. قلت وكيف عرفت أنني سأأثم؟.. قال: قوله تعالى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ}.. ثم أضاف: (لا يمكن أن يجتمع الإيمان بالقلب واتخاذ الكافر وليًّا) قلت: ولكن هذه الآية لا يجوز تعميمها على (كل) الكفار، فالأرجح الكافر المحارب، لأن ثمة آية أخرى تؤكد انحراف هذا التعميم، وهي قوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} ومعنى (مقسط) العادل في القسمة والحكم، فكيف تستقيم هذه الآية مع تعميمك على كراهية جميع من يخالفونك في الدين؟.. عندها أسقط في يده، وأفحمته الحجة، ثم قال بلغة العوام التي يحسنها (هالحين تبيني أطيعك ولا أطيع الشيخ) وذكر اسم الشيخ. أي أن الدليل والحجة لا علاقة لها بقناعة العوام بقدر علاقتها بما يتفوه به الشيخ الذي يقدسه هذا المطوع الجاهل؛ هذا رغم أنهم يرددون أن الشيخ (يُستدل له ولا يُستدل به)، إلا أن هذه القواعد إذا أتى التطبيق تجاهلوها، وعادوا إلى تقديس مشايخهم.
بقي أن أقول إن كثيرًا من (المسلمات) وأهمها كراهية غير المسلمين التي لقنها بعض المشايخ لأتباعهم تحتاج فعلا إلى نقاشها وإعادة النظر فيها.
*نقلا عن “الجزيرة”