أدت جرائم “داعش” إلى انتشار فكرة تقول إن الرد عليها لا يكون بغير ممارسة عنف ضدها، يفوق ما تمارسه هي من عنف، ليحدث أثرا رادعا لها، وإن تضمن أفعالاً جرمية تبز في فظاعتها ما ترتكبه هي منها.
لمواجهة “داعش”، تمسي حاجتنا، إذن، إلى قدر من العنف يفوق عنفها. هذا ما يعتقده سوريون كثر، يرون فيها شراً مطلقاً، لا تفيد معه سياسة، أو ينفع إقناع. ومع أن ظاهرة الإرهاب ليست جديدة على بلادنا والعالم العربي، فإننا لم نضع بعد برنامجاً حقيقياً ومدروسا للتربية بأبعادها الوطنية والإنسانية، يحصن المواطن العادي من غوايات التعصب والمذهبية، ويغرس في الأسرة مفاهيم وقيماً تحترم الإنسان، كائناً لا بد أن يكون حراً ومسؤولاً عن سلوكه وخياراته، ويزود المجتمع بمراكز تأهيل، تنقله من الانغلاق والتذرر إلى الانفتاح والاندماج، وتجعله مجتمعا تفاعلياً/ تواصلياً متكامل المكونات والأجزاء، يحترم التنوع والتعدد، ويدعمه بما يغنيه من أدوات ووسائل ومقومات، ويلزم الدولة بقوانين تنمي وظيفتها، كممثل لكل واحد من مواطنيها، ولكل فئة من فئاتهم، فتصير لهم جميعهم من دون استثناء أو استبعاد، ويبني الرأي العام على الاستنارة والحوار والتسامح، ليكون تواصلياً تعمه المعرفة بالعالم ووقائعه، ويربي الإنسان على حمل مشروع تحرره الذاتي الذي لا يستطيع إيكاله إلى غيره، لأنه لن يتحقق قطعاً في غيابه.
لن يردع العنف “الإرهاب” وتنظيماته، لأسباب منها أنه هو الذي لعب الدور الرئيس في إنجابه، وإيهام مظلومين كثيرين بأنه أداة ملائمة للدفاع عن أنفسهم. وستردعه، وتجفف منابعه، بالتأكيد، ثورة ينال الإنسان بها حريته، تعيد إنتاج حياته الخاصة والعامة، في حاضنة فكرية وسياسية/ اجتماعية، تحترم قدراته وتنميها، تكسر القيود المفروضة على عقله، وتعزز حقه في التمتع بتواصل إنساني طليق وأخلاقي، يفتح المجتمع بعضه على بعض، ويكسر ما بين مكوناته من جدران، بقوة التسامح والقبول بالآخر واحترامه كإنسان هو رأس مال أي تقدم أو عمران، وحامل تاريخ هو منطلقه ومآله، ومركز كون لا يكون له تاريخ بدونه.
لن يستطيع أحد مواجهة “داعش”، أو ردعها بالمنظومة الفكرية المغلقة والمذهبية، التي أنتجت العنف، وأدت، من حيث ازدرت بحياة المواطن وحقوقه، إلى ظهورها ونموها السريع. ومثلما لا يستطيع أحد إسقاط نظام استبدادي بواسطة فكر استبدادي، كذلك لا يستطيع أحد اسقاط تنظيم مذهبي، بواسطة مجتمع تنخره الطائفية، وتهيمن المذهبية على عقول بناته وأبنائه. ومن يراقب مجريات عام مضى على ظهور “داعش” وأخواتها يجد أنها ابنة واقع أفادت من موجوداته، وأنها لم تخلق شيئاً من عدم، وأنها دفعت الأحداث في الاتجاه نفسه الذي خططت له هي والسلطة، قبل أن تبدأ بحصد ثمارها.
لن تردع “داعش” أو أخواتها المنظومة “الفكرية” المغلقة والمذهبية التي تغذيها. ولن يوقف نموها، أو يكبحه، غير ثورة تتم على مستوى الفكر والواقع، تكون إنسانية وتنويرية، أداتها الإنسان الحر بصفته مواطن دولةٍ، ينعم في ظلها بالعدالة والمساواة. هذه الثورة لا تتنافى مع تلك القراءات المدافعة عن الجوهري في الدين، المعادية للمذهبية والتعصب، التي من المهم أن نفيد منها في ظروفنا الراهنة، لأنسنة صراعنا ضد المذهبية والتعصب، وتنظيماتهما الإرهابية، وفي سبيل حرية الإنسان كمؤمن وكفرد في المجتمع!
ترى، أليس في استطاعتنا أن نبدأ اليوم بإقامة كيان تنويري/ سياسي جامع، يلم شتاتنا في كل مكان وموقع من أوطاننا، يسهم في تجفيف منابع “داعش” الأيديولوجية والمذهبية، وفي حماية وجودنا وحريتنا