كيف كان يحكم الملك الحكيم حمورابي؟

bablبقلم : عضيد جواد الخميسي

ما من أحد ينظر الآن إلى موقع مدينة بابل القديمة ثم يخطر بباله أن هذه البطاح الموحشة ذات الحر اللافح الممتدة على نهر الفرات كانت من قبل موطن حضارة غنية قوية كادت أن تكون هي الخالقة لعلم الفلك ، وكان لها فضل كبير في تقدم الطب ، وأنشأت علم اللغة وأعدت أول كتب القانون الكبرى ، وعلمت الاغريق مبادئ الحساب ، وعلم الطبيعة والفلسفة ، وأمدّت اليهود بالأساطير القديمة التي أورثها العالم ، ونقلت إلى العرب بعض المعارف العلمية والمعمارية التي أيقظوا بها روح أوروبا من سباتها في العصر الوسيط . وإذا ما وقف الإنسان أمام دجلة والفرات الساكنين فإنه يتعذر عليه أن يعتقد أنهما النهران اللذان أرويا سومر وأكد وسقيا جنائن بابل المعلقة .
والحق أنهما إلى حد ما ليسا هما النهران القديمان ؛ وذلك لأن النهران القديمان قد اختطّا لهما من زمن بعيد مجريين جديدين ” وقطعا بمناجلهما البيض شطآناً أخرى ” .
وكان نهرا دجلة والفرات كما كان نهر النيل في مصر طريقاً تجارياً عظيماً يمتد آلاف الكيلومترات ، وكانا في مجرييهما الأدنيين يفيضان كما يفيض نهر النيل في فصل الربيع ويساعدان الزراع على إخصاب الأرض . ذلك أن المطر لا يسقط في بلاد بابل إلا في أشهر الشتاء ؛ أما فيما بين مايس وتشرين الاول/اكتوبر فإنه لا يسقط أبداً ؛ ولولا فيضان النهرين لكانت أرضهما جرداء كما كان الجزء الشمالي من أرض الرافدين في الأيام القديمة وكما هو في مثل هذه الأيام . ولكن بلاد بابل قد أضحت بفضل ماء النهرين الغزير ، وكدّ المواطنين أجيالاً طوالاً ، جنة الساميين وحديقة بلاد آسيا القديمة .

وكانت بابل من حيث تاريخها وجنس أهلها نتيجة امتزاج الأكديين والسومريين . فقد نشأ الجنس البابلي من تزاوج هاتين السلالتين ؛ وكانت الغلبة في السلالة الجديدة للأصل السامي الأكدي ، فقد انتهت الحروب التي شبت بينهما بانتصار أكد وتأسيس مدينة بابل لتكون شاملة أرض الرافدين السفلى بأجمعها . وتطل علينا من بداية هذا التاريخ شخصية قوية هي شخصية حمورابي 2123 ـــــ 2081 ق .م الفاتح المشرع الذي دام حكمه ثلاثاً و أربعين سنة . وتصوره الأختام والنقوش البدائية بعض التصوير ، فنستطيع في ضوئها أن نتخيله شاباً يفيض حماسة وعبقرية ، ذو عاصفة هوجاء في الحرب ، يقلم أظافر الفتن ويقطع أوصال الأعداء ، ويسير في شعاب الجبال الوعرة ، ولا يخسر في حياته واقعة ؛ وحّد الدويلات المتحاربة المنتشرة في الوادي الأدنى ، ونشر لواء السلام على ربوعها وأقام فيها منار الأمن والنظام بفضل كتاب قوانينه التاريخي العظيم

وقد كُشف قانون حمورابي في أنقاض مدينة سوسة في ايران عام 1902م . ووجد هنا القانون منقوشاً نقشاً جميلاً على اسطوانة من حجر الديوريت نقلت من بابل إلى عيلام حوالي عام 1100 ق .م فيما نقل من مغانم الحرب ، وقيل عن هذه الشرائع أنها منزلة من السماء . فترى الملك على أحد أوجه الأسطوانة يتلقى القوانين من شمش إله الشمس نفسه . وتقول مقدمة القوانين :
(( ولما آن عهد أنو الأعلى ملك الأنونا كي وبِلْ رب السماء والأرض الذي يقرر مصير العالم ، لما آن عهد حكم بني الإنسان كلهم إلى مردوك ؛ . . . ولما آن نطقا باسم بابل الأعلى ، وأذاعا شهرتها في جميع أنحاء العالم ، وأقاما في وسطه مملكة خالدة أبد الدهر قواعدها ثابتة ثبات السماء والأرض ـــ وفي ذلك الوقت ناداني أنو وبِل ــــ ، أنا حمورابي الأمير الأعلى ، عابد الآلهة ، لكي أنشر العدالة في العالم ، وأقضي على الأشرار والآثمين ؛ وأمنع الأقوياء أن يظلموا الضعفاء . . . وأنشر النور في الأرض وأرعى مصالح الخلق . أنا حمورابي ، أنا الذي اختاره ِبِلْ حاكماً ، والذي جاء بالخير والوفرة ، والذي أتم كل شيء لنيبور ودُريلو ، . . . والذي وهب الحياة لمدينة أوروك ؛ والذي أمد سكانها بالماء الكثير ، . . . والذي جمل مدينة بارسيا ،. . . والذي خزن البذور لأوراش العظيم ، . . . والذي أعان شعبه في وقت المحنة ، وأمن الناس على أملاكهم في بابل ؛ حاكم الشعب ، الخادم الذي تسر أعماله أنونيت )) .

إن الألفاظ التي أكدناها نحن في هذه العبارة لذات نغمة حديثة ؛ وإن المرء ليتردد قبل أن يصدق أن قائلها حاكم شرقي ” مستبد ” عاش في عام 2100 ق .م ، أو أن يتوهم أن القوانين التي تمهد لها استمدت أصولها من قوانين سومرية مضى عليها ستة آلاف عام . وهذا الأصل القديم مضافاً إلى الظروف التي كانت تسود بابل وقتئذ هي التي جعلت قانون حمورابي شريعة مركبة غير متجانسة . فهي تفتتح بتحية الآلهة ، ولكنها لا تحفل بها بعدئذ في ذلك التشريع الدستوري البعيد كل البعد عن الصبغة الدينية . وهي تمزج أرقى القوانين وأعظمها استنارة بأقسى العقوبات وأشدها وحشية ، وتضع قانون النفس بالنفس والتحكيم الإلهي إلى جانب الإجراءات القضائية المحكمة والعمل الحصيف على الحد من استبداد الأزواج بزوجاتهم . على أن هذه القوانين البالغة عدتها 285 قانوناً ، والتي رتبت ترتيباً يكاد يكون هو الترتيب العلمي الحديث ، فقسمت إلى قوانين خاصة بالأملاك المنقولة ، وبالأملاك العقارية ، وبالتجارة ، والصناعة ، وبالأسرة ، وبالأضرار الجسمية ، وبالعمل ؛ نقول إن هذه القوانين تكون في مجموعها شريعة أكثر رقياً وأكثر تمديناً من شريعة أشور التي وضعت بعد أكثر من ألف عام من ذلك الوقت ، وهي من وجوه عدة ” لا تقل رقياً عن شريعة أية دولة أوربية حديثة ” ؛ وقلّ أن يجد الإنسان في تاريخ الشرائع كلها ألفاظاً أرق وأجمل من الألفاظ التي يختتم بها البابلي العظيم شريعته :
(( إن الشرائع العادلة التي رفع منارها الملك الحكيم حمورابي والتي أقام بها في الأرض دعائم ثابتة وحكومة طاهرة صالحة . . . أنا الحاكم الحفيظ الأمين عليها ، في قلبي حملت أهل أرض سومر وأكد . . . وبحكمتي قيدتهم ، حتى لا يظلم الأقوياء الضعفاء ، وحتى ينال العدالة اليتيم والأرملة . . . فليأت أي إنسان مظلوم له قضية أمام صورتي أنا ملك العدالة ، ليقرأ النقش الذي على أثري ، وليلق باله إلى كلماتي الخطيرة ! ولعل أثرى هذا يكون هادياً له في قضيته ، ولعله يفهم منه حالته!)) ولعله يريح قلبه فينادي : (( حقا إن حمورابي حاكم كالوالد الحق لشعبه . . . لقد جاء بالرخاء إلى شعبه مدى الدهر كله ، وأقام في الأرض حكومة طاهرة صالحة . . . ولعل الملك الذي يكون في الأرض فيما بعد وفي المستقبل يرعى ألفاظ العدالة التي نقشتها على أثرى! )) .

ولم يكن هذا التشريع الشامل إلا عملاً واحداً من أعمال حمورابي الكثيرة . فلقد أمر بحفر قناة كبيرة بين كيش والخليج أروَت مساحات واسعة من الأراضي ، واصلح المدن الجنوبية ما كان ينتابها بسبب فيضانات نهر دجلة المخربة . ولقد وصل إلينا من عهده نقش آخر يفخر فيه بأنه أجرى في البلاد (الماء ) تلك المادة القيمة التي لا نقدرها اليوم والتي كانت في الأيام الماضية إحدى مواد التقديس والترف ، ونشر الأمن والحكم الصالح بين كثير من القبائل . كما نقرأ مقطع من النقش الأثري:
(( لما وهب لي أنو وانليل إلها أوروك ونيبور بلاد سومر وأكد لأحكمها، ووضعا في يدي هذا الصولجان ، حفرت قناة حمورابي[ نخوش ميشى – حمورابي المفيض]… ـــ هنا النص غير واضح ـــ على… الشعب التي تحمل الماء الغزير لأرض سومر وأكد . وحولت شاطئيها الممتدين على كلا الجانبين إلى أراضي زراعية ؛ وجمعت أكداسا من البذور ، وسيرت الماء الذي لا ينضب إلى الأرضين، وجمعت المواطنون المشتتين ، وهيأت لهم المرعى والماء وأمددتهم بالمراعي الموفورة وأسكنتهم مساكن آمنة] .
وبلغ من حذق حمورابي أن خلع على سلطانه خلعة من رضاء الآلهة بالرغم من أن قوانينها كانت تمتاز بصبغتها الدنيوية غير الدينية . من ذلك أنه شيّد المعابد كما شيّد القلاع ، واسترضى الكهنة بأن أقام لمردوك وزوجته إلهي البلد القوميين في مدينة بابل هيكلاً ضخماً ومخزناً واسعاً ليخزن فيه القمح للإلهين وللكهنة . وكانت هاتان الهديتان وأمثالهما في واقع الأمر بمثابة مال يستثمر أبرع استثمار ، جنى منه ربحاً وفيراً هو الطاعة الممتزجة بالرهبة التي يقدمها إليه الشعب . واستخدم ما حصل عليه من الضرائب في تدعيم سلطان القانون والنظام ، واستخدم ما تبقى بعد ذلك في تجميل عاصمة ملكه ، فأنشأت القصور والهياكل في جميع نواحيها ، وأقيم جسر على نهر الفرات حتى تمتد المدينة على كلتا ضفتيه ، وأخذت السفن التي لا يقل بحارتها عن تسعين رجلاً تمخر عباب النهر صاعدة فيه ونازلة ، وأضحت بابل قبل الميلاد بألفي عام من أغنى البلاد التي شهدها تاريخ العالم قديمه وحديثة .

كان البابليون ساميين في مظهرهم سود الشعر سمر البشرة ، رجالهم ملتحون ، ويضعون على رؤوسهم أحياناً شعراً مستعاراً وكانوا رجالاً ونساء على السواء يطيلون شعر رؤوسهم ، وحتى الرجال كانوا أحيانا يرسلون شعرهم في ضفائر تتدلى على أكتافهم، وكثيراً ما كان رجالهم ونساؤهم يتعطرون . وكان ثياب الجنسين المألوف مئزراً من نسيج الكتان الأبيض يغطي الجسم حتى القدمين ، ويترك إحدى كتفي المرأة عارياً ، ويزيد عليه الرجال دثاراً وعباءة ، ولما زادت ثروة السكان تذوقوا حب الألوان ، فصبغوا أثوابهم باللون الأزرق فوق الأحمر أو بالأحمر فوق الأزرق ، في صورة خطوط أو دوائر أو مربعات أو نقط . ولم يكونوا كالسومريين حفاة الأقدام بل اتخذوا لهم أخفافاً ذات أشكال حسنة ، وكان الذكور في عصر حمورابي يتعممون ، وكانت النساء يتزين بالقلائد والأساور والتمائم ، ويزينن شعرهن المصفف بعقود من الخرز . وكان الرجال يمسكون في أيديهم عصياً ذوات رؤوس منحوتة منقوشة ، ويحملون في مناطقهم الأختام الجميلة الشكل التي كانوا يبصمون بها رسائلهم ووثائقهم . وكان كهنتهم يلبسون فوق رؤوسهم قلانس طويلة مخروطية الشكل ليخفوا بها صفتهم الآدمية .

وزادت الثروة فأنتجت في بابل ما تنتجه في سائر بلاد العالم . ذلك أن من السنن التاريخية التي تكاد تنطبق على جميع العصور أن الثراء الذي يخلق المدنية هو نفسه الذي ينذر بانحلالها وسقوطها . فالثراء يبعث الفن كما يبعث الخمول ؛ وهو يرقق أجسام الناس وطباعهم ، ويمهد لهم طريق الدعة والنعيم والترف ، ويغري أصحاب السواعد القوية والبطون الجائعة بغزو البلاد ذات الثراء . وكان على الحدود الشرقية لهذه الدولة الجديدة قبيلة قوية من أهل الجبال هي قبيلة الكيشين تحسد البابليين على ما أوتوا من ثروة ونعيم . فلم يمض على موت حمورابي إلا ثمان سنين حتى اجتاحت رجالها دولته ، وعاثوا في أرضها فساداً يسلبون وينهبون ، ثم ارتدوا عنها ، ثم شنوا عليها الغارة تلو الغارة ، واستقروا آخر الأمر فيها فاتحين حاكمين ، وهذه هي الطريقة التي تنشأ بها عادة طبقة السراة( بعض الملاّك من الاسياد والطبقة الوسطى) في البلاد . ولم يكن هؤلاء الفاتحون من نسل الساميين ولعلهم كانوا من نسل جماعة المهاجرين الأوربيين جاءوا إلى موطنهم الأول في العصر الحجري الحديث ، ولم تكن غلبتهم على أهل بابل الساميين إلا حركة أخرى من حركات الهجوم والارتداد التي طالما حدثت في غرب آسيا. وظلت بلاد بابل بعد هذا الغزو عدة قرون مسرحاً للاضطراب العنصري والفوضى السياسية اللذين وقفا في سبيل كل تقدم في العلوم والفنون .
ولدينا صورة واضحة من هذا الاضطراب الخانق في رسائل (تل العمارنة )التي يستغيث فيها اشراف بابل وسوريا بمصر التي كانوا يؤدون إليها خراجا متواضعاً بعد انتصارات تحتمس الثالث، ويتوسلون إليها أن تمد إليهم يدها لتعينهم على الثوار والغزاة . وفيها أيضاً يتجادلون في قيمة ما يتبادلونه من الهدايا مع أمنحوتب الثالث الذي يترفع عليهم ، ومع إخناتون الذي أهملهم وانهمك في غير شؤون الحكم .

أُخرج الكيشيون من أرض بابل بعد أن حكموها ما يقرب من ستة قرون اضطربت فيها أحوال البلاد وتمزقت ، كما اضطربت أحوال مصر وتمزقت في عهد الهكسوس . ودام الاضطراب بعد خروجهم أربعمائة عام أخرى حكم بابل في أثنائها حكام خاملون فاسدون ليس في أسمائهم الطويلة اسم واحد جدير بالذكر . ودام عهدهم حتى قامت دولة أشور في الشمال فبسطت سيادتها على بابل وأخضعتها لملوك نينوى . ولما ثارت بابل على هذا الحكم دمرها سنحاريب تدميراً لم يكد يبقى منها على شيء . ولكن عصر ,,هدون,, ، المستبد الرحيم أعاد إليها رخائها وثقافتها . ولما قامت دولة الميديين وضعف الآشوريون استعان نبوبولصر بالدولة الناشئة على تحرير بابل من حكم الآشوريين ، وأقام فيها أسرة حاكمة مستقلة . ولما مات خلفه في حكم الدولة البابلية الثانية ابنه نبوخد نصر الثاني الذي يسميه بعض المؤرخين بـ (الرجل الوغد )حقداً عليه وانتقاماً منه . وفي وسع المرء أن يستشف من خطبة نبوخد نصر الافتتاحية لمردوك كبير آلهة بابل مرامي الملك الشرقي وأخلاقه :
(( إني أحب طلعتك السامية كما أحب حياتي الثمينة! إني لم أختر لنفسي بيتا في المواطن كلها الواقعة خارج مدينة بابل . . . ليت البيت الذي شيدته يدوم إلى الأبد بأمرك أيها الإله الرحيم . ولعلي أشبع ببهائه وجلاله ، وأبلغ فيه الشيخوخة ، ويكبر ولدي ، وتأتي إليَّ فيه الجزية من ملوك الأرض كلها ومن بني الإنسان أجمعين))

.وعاش هذا الملك حتى كاد يبلغ السن التي يطمع فيها ؛ وكان أقوى ملوك الشرق الأدنى في زمانه وأعظم المحاربين والبنائين والحكام السياسيين من ملوك بابل كلهم لا نستثني منهم إلا حمورابي نفسه . هذا مع أنه كان أمياً ، ولما تآمرت مصر مع أشور لكي تخضع الثانية بابل إلى حكمها مرة أخرى ، التقى نبوخد نصر بالجيوش المصرية عند قرقميش على نهر الفرات الأعلى وكاد يبيدها عن آخرها . وسرعان ما وقعت فلسطين وسوريا في قبضته ، وسيطر التجار البابليون على جميع مسالك التجارة التي كانت تعبر غرب آسيا من الخليج إلى البحر الأبيض المتوسط …

المصادر
ــــــــــــــــــــــــــــــ
مارك فان دي ميرووب ـــ الملك حمورابي من بابل ـــ بلاكويل للنشرـــ 2005.
ث جاكوبسن ـــ الديمقراطية البدائية ـــ مجلة دراسات الشرق الادنى ـــ 1952.
سهيل قاشا ـــ شريعةحمورابي ـــ لندن ـــ 2007.
ابراهام . م . ليفنون ، الشعوب القديمة والقانون ـــ لندن ـــ 1992

About عضيد جواد الخميسي

كاتب عراقي
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.