الاستراتيجية التي اعتمدها النظام السوري بانسحابه من كل المناطق التي لا يعتبرها حيوية، قسّمت سوريا، وجاء التدخل الروسي ليحمي الحدود الجديدة بعد الهزائم التي دكت تلك الاستراتيجية، إذ مع سقوط المدينة الاستراتيجية جسر الشغور على أيدي تحالف تنظيمات «جيش الفتح» اقتربت الثورة من البحر المتوسط وأيضًا من مرفأ طرطوس، وعرفت روسيا أن بشار الأسد لن يصمد للدفاع عن المناطق التي تحت سيطرته. مع التدخل تركز موسكو على قاعدة «باسل الأسد» الجوية خارج اللاذقية، وعلى توسيع مرفأ طرطوس. من الواضح أن الخطر المباشر على نظام الأسد الذي أقامه في غرب سوريا لا يأتي من «داعش»، بل من تحالف «جيش الفتح»، لذلك كانت الطلعات الجوية الروسية تستهدف هذه التجمعات أكثر من استهدافها «داعش».
ومع التطورات الأخيرة، أعلن البنتاغون يوم الجمعة الماضي تخفيض مساعداته للمعارضة السورية التي يدعمها مستعيضًا يوم الاثنين الماضي بإلقاء 50 طنًا من الذخائر جوًا لمجموعات تناهض «داعش»، بينها الأكراد. في ذلك اليوم أيضًا أكد الحلف الأطلسي استعداده دعم تركيا ضد روسيا «إذا ما احتاجت إلى ذلك». لكن اللافت أنه في 11 من الشهر الحالي بدأت الولايات المتحدة سحب بطاريات صواريخ «باتريوت» من تركيا والتي كانت نُشرت في «غازي عنتاب» شرق البلاد لحمايتها من أي تهديد صاروخي من سوريا. في شهر أغسطس (آب) الماضي قالت ألمانيا إنها «ستنهي مساهمتها في مهمة مضادة الصواريخ في تركيا»، تبعت بذلك هولندا التي قالت إنها «ستسحب أنظمة (باتريوت) من تركيا»، ثم أبلغت الولايات المتحدة الحكومة التركية أنها لن تجدد مهمة «الباتريوت» التي تنتهي نهاية هذا الشهر، وبدأت بالفعل سحب الصواريخ إلى ميناء الإسكندرون.
لم تتراجع واشنطن عن قرارها حتى عندما خرقت الطائرات الروسية المجال الجوي التركي في طريقها إلى سوريا، وكان أبرزها يوم الاثنين قبل الماضي عندما ذكر المسؤولون الأتراك أن طائرة «ميغ – 29» مجهولة الهوية عطلت الرادار لمدة 4 دقائق ونصف الدقيقة على سرب من ثماني طائرات تركية من طراز «إف – 16» كانت تقوم بدورية على الجانب التركي من الحدود مع سوريا. وحسب مرجع عسكري غربي، فإن هذه كانت رسالة، يعرف أبعادها كل جنرال تركي، ولم يكن الأمر خطأ. ويضيف أن سوريا الآن هي نقطة الاشتعال الأخطر في العالم.
خطط روسيا الفورية إنقاذ نظام الأسد في شمال غربي سوريا. لكن القصف الجوي الروسي الذي يطال كل التنظيمات بما فيها «داعش» قد يمتد إلى المناطق السورية التي تقوم الولايات المتحدة وحلفاؤها في الحلف الأطلسي بعمليات جوية فيها، وهذا يدفع إلى احتمال حدوث تصادم غير مقصود ما بين «الأطلسي» والطائرات الروسية يمكن أن يرفع من حدة التوتر ما بين الطرفين.
دخلت روسيا إلى ميدان مزدحم بالفعل بجبهات محلية وإقليمية وأجنبية تشارك في القتال في سوريا. فمنذ أكثر من سنة تستهدف الولايات المتحدة وعدد من دول الحلف الأطلسي مثل تركيا، وكندا، وفرنسا، وخارج الحلف مثل السعودية، والأردن، وأستراليا، مقاتلي «داعش» في سوريا. استطاعت هذه الدول شل القدرة الاقتصادية للتنظيم، لكنها لم تمنعه من التوسع في الأراضي الخاضعة لسيطرتها في شرق وشمال ووسط سوريا. وكانت تركيا والأردن اقترحتا إقامة مناطق آمنة للذين يقاتلون ضد نظام الأسد في شمال وجنوب غربي سوريا. لكن الولايات المتحدة رفضت، والحلف الأطلسي قال إن «هذه مهمة الأمم المتحدة (مجلس الأمن)».
أخطر ما يمكن أن يحدث هو في حال اشتبكت الطائرات الروسية مع الطائرات الأميركية أو طائرات حليفة أخرى. لكن تجنبًا لأي احتمالات جرت لقاءات بين عسكريين روس وأميركيين. وكان الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال لقاءاته أخيرا في بروكسل، أدرك أن كل دعم الأطلسي لتركيا في هذه المرحلة، خطابي بحت. ويبدو واضحًا أن واشنطن لن تفعل شيئًا. كل الأصوات الأميركية المقربة من البيت الأبيض تبرر أن الرئيس أوباما مخلص لمبادئه، فهو جاء على مبدأ «لا حرب أميركية أخرى في الشرق الأوسط». من جهة أخرى، خفتت المنافسة «الكلامية» ما بين السناتور الجمهوري جون ماكين والمرشحة الديمقراطية لرئاسة الجمهورية هيلاري كلينتون حول ضرورة إقامة مناطق آمنة في سوريا. الاثنان يعرفان أنها لن تتحقق بعد التدخل الروسي وأيضًا بعد الرفض الأميركي. ثم إن روسيا عارضت طوال أربع سنوات صدور أي قرار عن مجلس الأمن يقضي بانتقال ديمقراطي للسلطة في سوريا وهي لا تزال تراهن على أن الإدارة الأميركية لن تدعو مجلس الأمن لإقامة مثل هذه المناطق في وقت تسحب صواريخ «الباتريوت» من تركيا.
صحيح أن الانتشار العسكري الروسي في سوريا هو لحماية الأسد، لكن ليس هناك مؤشرات إلى أن روسيا ستخوض حملة كي يستعيد النظام السوري الأراضي التي «تخلى» عنها بإرادته. هي تريد منع الثوار من الاقتراب مما سماه الأسد «سوريا المفيدة». لكن «لا وجبة مجانية» مع الروس. روسيا ليست في حاجة إلى شرق سوريا. وجودها سيسمح للحرب السورية بالاستمرار. يقول محلل استراتيجي غربي: «بوتين يرى شرق البحر المتوسط الملعب الخلفي للغرب». في المفهوم الاستراتيجي الإبقاء على الصراع مستمرًا في هذا الملعب الخلفي هو هدف طبيعي للتعويض عن تدخل الغرب في الملعب الخلفي الروسي، أي دول الاتحاد السوفياتي السابقة وعلى الأخص أوكرانيا.
لذلك، فإن إصرار روسيا على إبقاء الأسد في اللعبة فيه منطق روسي أبعد من سوريا. هي غير مهتمة بأن يحقق نصرًا كاملاً. العارفون الروس يقولون إن «الأسد لجأ إلى روسيا لينقذ نفسه وجماعته من هجوم (التشيع) الإيراني الذي تجاوز كل الحدود»، إلى درجة أن العلويين بدأوا يعبرون عن رفضهم للضغوط الإيرانية. وجاء على صفحة «أخبار جبلة» في «فيسبوك» أنهم «يعيدوننا ألف سنة إلى الوراء، نحن لا نضع الحجاب، حتى إننا لسنا بشيعة» (دير شبيغل). إذن هربًا من «تصدير الثورة الشيعية إلى سوريا» والسجن الإيراني صار الأسد حجر شطرنج في اللعبة الروسية.
من المؤكد أن الرئيس أوباما فوجئ بالسرعة التي نفذ فيها بوتين خطته السورية. رأى بوتين فراغًا في شرق البحر المتوسط سببه رغبة أوباما تجنب أي التزام في المنطقة. هذا «التجنب» شعرت به أوروبا قبل روسيا، فصار وزراء خارجيتها ودفاعها يتجاوزن مطلبهم الأساسي برحيل الأسد. وقالت وزيرة الدفاع الألمانية يوم الاثنين الماضي في الـ«بي بي سي»: «نحن نثق بقول الرئيس بوتين أن الأسد لن يبقى بعد مفاوضات سلام انتقالية في سوريا». وهذا ما يردده أيضًا ساسة فرنسيون وبريطانيون. كما أن الدبلوماسية الروسية في المنطقة أبقت على قنوات اتصال وتعاون مفتوحة مع خصوم إيران والأسد في المنطقة. وكان لوحظ خلال محادثات بوتين مع ولي ولي العهد السعودي وزير الدفاع الأمير محمد بن سلمان وجود وزير النفط الروسي ألكسندر نوفاك. وقال لاحقًا وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف: «بعد محادثات اليوم صرنا أكثر فهمًا لكيفية التحرك نحو حل سياسي»، فرد الأمير محمد بن سلمان بأن السعودية مع حل سياسي يتضمن رحيل الأسد.
يبرر بعض المعلقين الأميركيين أنه في ظل الانقسامات في أميركا كان من الصعب على الرئيس أوباما اتخاذ القرار الحاسم. حمل أوباما أميركا على إدارة ظهرها للمنطقة، فدفع هذا بروسيا لتصبح لاعبًا مقررًا في الشرق الأوسط لأول مرة منذ سقوط الاتحاد السوفياتي. أو هكذا بدأ يُنظر إليها فصارت هناك استراتيجية جديدة في الشرق الأوسط. رمى بوتين بشباكه فعلقت داخلها أعناق القادة الغربيين. ثم ها هو العراق بعد سوريا يقترح تبادل المعلومات الأمنية مع روسيا لملاحقة «داعش». كما أصدر المرجع الشيعي العراقي الشيخ محمد الحسني الصرخي المناهض لإيران بيانًا يدين فيه فتوى آية الله السيستاني الذي دعا إلى تشكيل قوات الحشد الشعبي «التي زجت بالشيعة العراقيين في معركة خاسرة». ودعا الصرخي إلى مراجعة جميع فتاوى السيستاني السابقة التي قال إنها «تصب كلها في مصلحة إيران وتخدم منافعها ومشروعها».
الإرث الذي سيخرج به الرئيس أوباما هو أنه لم يكسب إيران، بل خسر كل حلفاء أميركا!