الشرق الأوسط
قبل الثورة، كان الخوف يدفع السوريين إلى الحديث عن أنفسهم وكأنهم ضيوف لدى النظام. وكان النظام يتحدث عنهم وكأنهم خدم لديه. كان الخوف يدفع السوريين إلى عزو كل ما هو سلبي في حياتهم إلى أنفسهم، وكل ما هو إيجابي إلى القيادة، إلى رجل خصهم الله به دون جميع شعوب الأرض، مع أنهم لا يستحقونه، ويعد رئيسا مظلوما لأنه يحكم شعبا صغيرا لا يرقى إلى مستواه الاستثنائي والفريد. كانت دعاية النظام الرسمية تؤكد: لو أن رئيسه حكم أميركا لنال المكانة التي تتفق مع مواهبه وأهميته، لكنه لحسن حظ السوريين وسوء حظه الشخصي مبتلى بشعب صغير، لولا قيادته الحكيمة لكان أحد أكثر شعوب الأرض تأخرا وهامشية، ولما كان لديه شيء يثير الاهتمام. لذلك، من الحتمي تقسيم التاريخ السوري إلى مرحلتين: واحدة بائسة سبقت وصوله إلى الحكم، كانت البلاد غارقة خلالها في شقاء لا يوصف وعاجزة عن مواجهة أي مشكلة مهما كانت صغيرة، وأخرى تلت لحظة فريدة في حياتها بدأت مع توليه القيادة، هي حقبة سعد فيها المواطنون به وشقي هو بهم، لأنه يعمل ليلا ونهارا لإخراجهم من حال ميؤوس منها كانوا يعيشون فيها بلا أمل أو رجاء، وبلا ما وفره لهم بجهوده الاستثنائية الملهمة من حاضر تليد ومستقبل مجيد.
روى أحد الاقتصاديين قصة تبين هذا الواقع حدثت خلال لقاء جمعه مع ضابط كبير أخبره أن الفضل فيما يصل سوريا من مساعدات يرجع إلى السيد الرئيس، فلا ضير إن هو اعتبره ملكه الشخصي، الذي يدفعه نبله وكرمه إلى الجود به على شعب لا حق له فيه. سأل الرجل إن كان المال لا يمنح لسوريا، فنهره الضابط بحدة وقال: ولماذا لم تكن الأموال تأتي إلى سوريا قبل الآن؟ إن سوريا ليست هي التي تتلقى المعونات، ولو كنت مكان السيد الرئيس لما أعطيتها قرشا واحدا مما يأتيني، ولنر عندئذ ماذا كان بوسعك أن تفعله أنت وسورياك! من هذا المنطق، كانت السلطة تسمي زيادات الرواتب «أعطيات»، فهي ليست مستحقات الموظفين، التي يحتم القانون دفعها لهم وفق نسب معروفة ومحددة بصورة مسبقة زمانيا وحسابيا، بل هي «منح» توهب لهم من واجبهم شكر سيدهم عليها وكأنها من ماله الخاص، أو كأنه أخرجها من جيبه ووضعها في جيوبهم، على الرغم من أنهم ليسوا بحاجة إليها. يحرم السيد الرئيس نفسه مما يحصل عليه الرؤساء عادة، بل إنه يجوع كي يشبعوا، ويعاني الحرمان كي ينعموا بالوفرة، ويسكن في بيت عادي كي يسكنوا بيوتا فارهة.
ثمة طرفة تكشف النظرة الرسمية إلى علاقة الرئيس مع سوريا شعبا ووطنا. أخبر عنصر في الأمن عنصرا آخر أن السيد الرئيس أصدر مرسوما حول الزلازل، فعلق هذا بتلقائية: لا يستحق الشعب ما يفعله السيد الرئيس من أجله، ولو كنت مكانه لما أصدرت مرسوما يمنع وقوع الزلازل، ولتركتها تفتك به. تصور أن هذا الشعب اللعين لم ينظم إلى الآن مسيرات تشكره على هذا الإنجاز.
هذه ليست مجرد أحداث عابرة ونكات. إنها وصف لعقلية آمنت أن البلاد تصنع من فوق، وأن كل ما فيها يرجع إلى جهود شخص واحد هو «السيد الرئيس»، فهي إذن بلاده: ملكه الشخصي والخاص، الذي يعيش منه وبفضله شعب طفيلي يبقيه هو حيا بفضل مكرمات تعيله وتكفل استمراره.
بهذه الصورة الآيديولوجية، التي لا تتفق مع أي واقع في أي زمان أو مكان، وتقلب الحقائق رأسا على عقب، فتجعل النظام منتجا وعاملا والشعب سلابا نهابا وكسولا، وتوقف الواقع على رأسه بدل قدميه، وتنتج الدولة والشرعية من غير مكانها التقليدي: الشعب وسيادته. لا عجب أن تتشوه حياة المواطن، وأن يكون الخوف أكثر أشكال وعيه تعبيرا عن وجوده وتحصينا له، وأن تكمن سلامته في هامشيته وابتعاده عن الشؤون العامة، وترك مصيره ومصير وطنه لإرادة فرد واحد لا سلطة لأحد عليه هو «سيده» الذي يملك كل ما يلزم من أدوات وقوة وموارد للتحكم به وإعادة إنتاجه على الصورة التي تخدم سلطانه، ويقرر وحده كيف تكون شؤونه وما هي مصالحه وكيف تتحقق وما النتائج المترتبة عليها في حياة كل تابع من هؤلاء الذين يسميهم في مفتتح خطبه: «مواطنيه الأعزاء أو إخوته المواطنين».
ربما كان هذا الوضع العبثي هو الذي يفسر ما يجري في سوريا اليوم من عنف، فالتابعون الذي يعيشون من نعم «سيدهم» ليس من حقهم بالطبع التمرد أو الثورة عليه، ولا يجوز أن يعتمدوا حيال أفضاله لغة غير لغة التسبيح بحمده وشكره على عطاياه ومكرماته، فإن هم تمردوا أو ثاروا أو احتجوا، كان من حقه وواجبه معاملتهم كعصاة قضوا على مسوغات وجودهم بأيديهم، وغدا من المنطقي والحتمي أن يستعيد ما حصلوا عليه منه: أي كل ما يملكونه، بما فيه حياتهم.
يجد ما يجري في سوريا تفسيره في هذه الآيديولوجيا السلطوية، التي تنتج عقلية تعتبر المواطن شيئا نافلا لا لزوم له، وممارسة همها التخلص منه كعبء زائد لا لزوم له، خاصة إن كانت مطالباته تهدد توازنات السلطة وتبدل طابع علاقاته معها.
يحار العالم في فهم ما يجري من عنف لا مسوغ له في سوريا، ولن يكون له أي مسوغ في أي مجتمع آخر أو في أي علاقة سياسية بين سلطة حاكمة ومواطنين محكومين. لذلك ترى بين مراقبي الوضع السوري من يرد عنفه إلى طبيعة خاصة بالقابضين على أعنته، لا تشبه طبيعة أي مجموعة سياسية أخرى. والحال، لا يرجع العنف الرسمي السوري إلى طبيعة بشرية ما، بل هو نتاج مركب ومعقد لآيديولوجية سلطوية مشحونة بمصالح فئوية وحسابات خلاصية تنزه الحاكم وتضعه في مرتبة تبيح له قلب الجرائم التي يرتكبها نظامه إلى فعل أخلاقي على صعيده الخاص ووطنيا في المجال العام. من يستمع إلى تصريحات وأحاديث المسؤولين السوريين يرى هذا الجانب مبثوثا بوضوح في كل جملة يقولونها، ويراه في القول الصريح، الذي ينفي أن يكون قتل الشعب جريمة، ويؤكد بعد مرور قرابة عامين أن موت الشعب فعل أخلاقي ووطني وإنساني، يطهره من العناصر الفاسدة والخائنة. هذه العقلية بالذات هي، بنتائجها العملية، البلاء الأعظم الذي حل بسوريا!