كوباني…أيقونة في زمن التيه…؟؟…
كوباني…. أصبحت… “فجأة”… على كل لسان…. بعد ان كانت لسنوات طويلة تتوجع و تصرخ من التهميش و التدمير التنظيمي لهويتها… قيمتها الثقافية و رمزيتها السياسية… سموها ” عين العرب”… لماذا…؟؟.. رغم ان اغلب سكانها من الكورد… كانوا هكذا قبل ان تقطعه السكاكين البريطانية و الفرنسية في اتفاقية سايكس-بيكو التي يرفضها الجميع… دون ان يحاول ان يحول هذا الرفض الى واقع… فالنظام السياسي في سوريا الحديثة اطلق عليها تسمية “عين العرب”… و النظام السياسي في تركيا قبلت و تعاملت على أساس هذه التسمية الجديدة… رغم وجود حقيقتين حافظتا على جديتهما…
هاتين الحقيقتين هما…اولا….حفاظ المجتمع ذو الأغلبية الكوردية في كوباني على تماسكه رغم كل ظروف التهميش و التغريب السياسي و القانوني… حيث ان الكثيرين من اهل كوباني لم يحصلوا على الجنسية السورية و بذلك ظلوا مجرد “مهاجرين” غرباء تسكن أرضا عربية…
ثانيا…. حفاظ الأتراك و خاصة النخبة السياسية و رغم الاختلافات الأيديولوجية و في الاولويات و الخطاب السياسي و الاسترتيجيات المختلفة و صراع الحاد بين المشاريع القومية و الدينية و غيرها… نعم… رغم كل هذه الاختلافات فقد احتفظ اغلب القوى التركية بأحلام اعادة كوباني و غيرها من أراضي شمال سوريا و من ضمنها مدينة حلب التاريخية ( بالاضافة الى ولاية الموصل العراقية) الى تركيا يوما…
للأسف فان كل قوانين الامم المتحدة و المنظمات الدولية لم تستطع ان تخترق…. لا جدار الدولة الحديثة سواء في سوريا او غيرها لكي تخلق أسسا سياسية و اقتصادية لدمج كوباني و غيرها من المدن و المناطق الكردية في اجهزة و مشاريع بناء الدولة الحديثة…. كما لم تتمكن قرارات تقرير المصير و محو اثار الاستعمار ان تخرج كوباني و غيرها من المدن الكردية من ربق الاستعمار الحديث و الاستعمار القديم و احلام الاستعمار الكلاسيكي و غيرها من مفاهيم و تطبيقات الاستعمار..
هناك حالة إضافية… تطور تاريخي يحمل معه عناصر استعمار جديد… حالة استعمارية متجددة و هي العولمة…. و هنا يبدو ان كوباني تشكل حلقة مهمة … بل قد تكون حلقة حاسمة بين اختيارات او احتمالات متعددة تتراوح بين الإبقاء على الوضع الحالي اي الإبقاء على التهميش داخل بوتقة الدولة الوطنية في سوريا… او العودة الى التهميش في ظل امبراطورية تركية سبقت قيام الدولة الحديثة و التقسيم الجغرافي السياسي وفق ترتيبات سايكس-بيكو.. لكن هذا الاحتمالين ليس فيهما اي شيء جديد…
اما الجديد فهو ما يمكن ان يقع بين هذين التهميشين … اي الإمبراطوري التركي و الدولة السورية الحديثة… اول عناصر هذا الجديد هو ان كوباني وضعت نفسها في مصاف القلاع التاريخية للمقامة للاحتلال… ربما ليننجراد تشكل أيقونة في تاريخ الحرب العالمية الثانية…. لكن باختلاف مهم يتجاوز اي مدينة مقاومة اخرى في التاريخ… و هو ان كوباني تقوم في وقت واحد بمقاومة ثلاث مشاريع رئيسية و بعض المشاريع المحلية …
المشاريع الكبرى يمكن تلخيصها بالمشروع التركي- العثماني الجديد…و المشروع العربي- الاسلاموي التقليدي و مشروع العولمة ( الاستراتيجيات الكبرى : الامريكية- الغربية …. و الروسية – الصينية – الإيرانية )… و هناك بين المشاريع الكبرى بعض المشاريع المحلية… ذكرت اثنين منهم و هما العودة الى الحضن التركي و معناها تهميش اثني و اقتصادي… او ترسيخ التهميش في إطار الدولة السورية الحديثة و التي لا تختلف نتائجها عن نتائج العودة الى الحضن التركي..
هناك ايضا مشاريع محلية صغيرة و ان كان بعضها يبدو ذو أهمية كبيرة…و احد اهم هذه المشارع هو تطوير القومية الكوردية و بناء دولة الكورد… و في هذه المناسبة كانت القوى الكورية الكبرى قد طرحت فكرة المؤتمر الكوردي العام و و اتفقت على بعض الإجراءات العلية لعقده قبل أشهر … شخصيا كتبت ثلاث مقالات طويلة في هذا الموضوع و قد اشرت في المقالة الثانية الى أهمية كوباني في ذاكرة التهميش…لكن رغم هذه المحاولات الا ان العلاقات بين الأحزاب و القوى الكردية سواء داخل كل بلدان بلد مثل العراق و ايران و تركيا و سوريا ليست على ما يرام…. و هذه الحالة تفتح المجال الى تدخلات كثير من اصحاب المشاريع الكبرى و بالتالي تشكل عقدا جديدة…. تتمحور مرة اخرى في عقدة كوباني…
صراع المشاريع هذه … الكبرى منها و الصغرى… اصطدمت بجراحات اهل الكوراني و آلامهم التاريخية … و تقاطعت بشكل جدي مع رغبات اهل كوباني و آمال الناس و طموحاتهم و رؤاهم التي تتجه احيانا باتجاه تضميد الجراحات التاريخ … و من جهة اخرى الى الأحلام السياسية الاجتماعية و الاقتصادية….
هذه الاستراتيجيات و صراعاتها و صفقاتها تتقاطع ايضا مع التحديات الجدية و الرغبات في بناء الذات … و هو ما يندرج في إطار محاولة دولة كوردية… الامر الذي يشكل تحديا جديا في ترتيبات اعادة بناء الشرق الأوسط … و التي يشكل ظهور داعش اهم تجلياته… و رغم داعش تمددت بسرعة جغرافيا و سياسيا و اعلاميا و ايديولوجيا… كما ذكرت في مقالتي عن داعش… الان ان كوباني أصبحت تشكل عقدة في هذا التوسع … او بكلام اخر… تشكل اول حلقة حقيقية للمقاومة… و هذا هو ما يعطيها صورة تختلف عن صور المناطق الاخرى التي آلت الى السقوط… و كذلك تلك التي شكلت منطلقا للمقاومة التاريخية …
بهذا الوصف فان كوباني تمثل أيقونة مقامة تتجاوز البعد التاريخي … لان عالم اليوم… و هو عالم وضعته ميكانيزمات العولمة و صراع الجميع ضد الجميع على الانحدار المفتوح… فان وقوف كوباني بهذا الشكل و تحت هذه الظروف من عدم التكافؤ العسكري و السياسي و الاقتصادي يمثل حالة نادرة …. حالة ربما تعيد الى الشعوب ذاكرتها الذاتية و ايمانها بقدرتها على ان تقول …”لا”… و ان تبني نفسها ليس مع او ضد التيار … بل بشكل يتوافق مع اختيارات الذات و تفاعلها…
و لعل من اهم مركبات هذه الأيقونة التاريخية هي تلك النساء ….. من إعمار مختلفة….. اللواتي أقدمن على تحدي الذات في حمل السلاح ضد قوة داعش التي تتخذ من صورة المرأة أساسا في خلق الدوافع السيكولوجية لمقاتليها…. صحيح … ان المرأة الكوردية لعبت تاريخيا دورا سياسيا كبيرا و قادت في لحظات تاريخية مقاتليها… بل مجتمعها كليا…و ربما تكون “قدمخير” احدى تلك الأيقونات المهمة في تاريخ الكورد… كما ان وجود النساء في صفوف البيشمركة… المقاتلين الكورد… عبر العقود الاخيرة في تاريخ النضال الكوردي … كان شيئا مألوفا و تجربة مهمة (بما كل ما تحمل اية تجربة من ايجابيات و سلبيات ) في كل اجزاء كوردستان …. لكن من الضروري التأكيد ان هذه المشاركة لم تقتصر على الكورديات بل شاركت نساء كثيرات من انتماءات إثنية و دينية اخرى بذات السلاسة و التقدير العام…
و عليه فان ما تشهده كوباني يمثل من ناحية استمرارا لطبيعة النضال الكوردي التي تتوافر على “فسحة للجميع” للمشاركة دون تمييز… و لكنه يمثل تحديا للظروف الجديدة في مفهوم دور المرأة الحيوي في تطور المجتمع… المدينة تتحول الى أيقونة للمقاومة… و المرأة التي تتحول الى أيقونة للبناء….
هكذا قد تكون الصورة… و قد تتحول الى شيء اخر فنحن في زمن التيه…!!!…حبي للجميع..