الخطيئة والمجتمع في رؤى إبراهيم يلدا .
السقوط في الهاوية سهل فهل الخروج صعب ؟
كيف يعاد بناء مجتمع دثرته الحروب النفسية ؟
عصمت شاهين دوسكي
الجزء السادس
تتحرك الرؤية الشعرية في إيصال الفكر الذي يتجزأ في مضامين مجتمعية عدة لكل واحدة لها صلة في تجارب ورؤية الشاعر التي يجب أن تتعادل بين الجدية واللين وتتوازن في العمق والتبيين ، فظهور الأشياء على حقيقتها يكرس مضمون الصورة المجتمعية المعاصرة ومتى توفرت الوسائل والأدوات الشعرية وتمكن منها الشاعر غدت أكثر قوة وتأثيرا وتوجيها وإرشادا فهنا يكون الشاعر بمنطق المصلح والمخلص ، وإن كان هذا الأمر ترجيحيا ، نسبيا ، لكن عند رؤية الشاعر إبراهيم يلدا موقف حازم ومباشر ونصه الشعري موحد يعطي تصورا للقضايا العميقة ويوحي في نفس الوقت بالبساطة ، وهي مجموعة من الأفكار والرؤى قد تصدمك عند معرفة كينونتها ، فالقضية التي يبرزها الشاعر إبراهيم يلدا تخلق إشكالية في التعامل والتطبيق ، فهي تجمع بين الرؤية والمضمون الذي يحتاج للكشف الصريح العلني والمعالجة والتوجيه في قصيدته ” كم أنا آسف أيتها البنت ” فاختزال قضية إنسانية اجتماعية وكشف معانيها ومفهومها يحتاج إلى الدراية الدقيقة للتصورات التي تحتوي عروضا سلبية بقدر ما هي سلبية ، فإن تمرد أي شابة لا يأتي من لا شيء ، ويحضرني قول للدكتور النفساني الروائي ” إحسان عبد القدوس ” حينما قال : ” الخطايا لا تولد معنا لكن المجتمع يدفعنا إليها …” ومعان وصور الأسف التي يعرضها إبراهيم يلدا ما هي إلا آثار غائرة في العمق الوجداني نتيجة التمرد والعشوائية والفوضوية والعبثية في للمجتمع من خلال ” الشابة ” حيث يقول الشاعر بنبرة حزن ( أسفي عليك أيتها الشابة ) فالنصائح التي وهبت لها كأنها وصايا لوح قديم لا بد من الرضوخ لحكمها ، ( لأنك تجاهلت نصائحي ) هذا الجهل قوة جارفة للنزوات وتحقيق بؤر الغايات تحت ذريعة الحريات ، وما صورة ” الأم ، الأب ، الأخوة ” إلا صورة مجتمع ملتزم بالحياة على أسس سليمة ، لكن هول العبثية إذا انبثق فسر مشاهد إنسانية مؤلمة وخطايا يبكي لها الحجر والشجر لوجود فراغ كبير
يقتضي الخروج منه وإملاءه وتكوينه بشيء جديد ، الفراغ والبطالة سياسة قتل الإنسان بطيئا وسياسة تحول الإنسان السوي العاقل الناضج إلى مجرم في حق نفسه وحق المجتمع ( عشت في ليلة فارغة ) هذه الرؤية الشعرية ليس من الخطأ عرضها لكن من الخطأ كتمانها لأن سلطان الطيش والاندفاع والظلام والوسوسة ما زال متمكنا في نفوس الشابات والشباب في وقت لا ينفع فيه البكاء .
(( أسفي عليك أيتها الشابة
لأنك تجاهلت نصائحي
بعت سنوات عمرك
بدقيقة من اللهو
بعت حب أبيك وأمك وأخوتك
ولم تفكري بالحياة
كم فيها من غنى
وحين خنت كل مقدسات هذه الأمة
وعشت في ليلة فارغة تعج بالظلام
وحدك في عالم البكاء )) .
مراعاة ظروف الشابة بحكمة وتعقل تفيدها على الرغم من الأمور والخطايا التي تؤثر عليها نفسيا وفكريا وجسديا التي ربما تجعلها منحطة من الجهة النفسية والمنطقية المبنية على ارتكاب الخطايا في حالة مليئة بالفراغ والبطالة ( أصبحت عاطلة ، غريبة في ظلام الغربة ) ومهما كانت الأدلة والتصورات الثابتة عليها ، فالمسيح يقول : ” من كان منكم بلا خطيئة ليرجمها بالحجر ..” حيث ظاهرية الشكل الخارجي ليس كما هي في الحقيقة الداخلية للإنسان ( غناؤه يدل على ضياعه ) فالجوع والعطش والحرمان من الأسباب المباشرة للسقوط في واحة الخطيئة ، القصيدة لا تحتوي على مبدأ تصور فوضوي هدام للإنسان والمجتمع بل تعويض هذا الأسف النفسي والفكري والحسي برؤية جديدة أساسها الحب والألفة والتسامح والتلاقي ، ( حين حملوني إلى الحب ، برحمة ومغفرة ) الحب والرحمة والمغفرة أدلة إنسانية راقية توجه المجتمع ” الشابة ” للطريق الصحيح .
(( الحزن والانفعال
أصبحت عاطلة وغريبة في ظلام الغربة
كريش جناح في مهب الريح
كطير يظل طريقه
وهو يبحث عن فيافي البساتين
عطشا ، جائعا ، حزينا
غناؤه يدل على ضياعه
وفي الحلم يرى وردة حزينة
وجرعة ماء من الساقية وشعلة من الزفير
وحين حملوني إلى الحب
برحمة ومغفرة )) .
الشابة في نظر المجتمع قد تبدو كالثلج النقي لكن يذوب بسرعة عند اقترابه لأي حرارة وتذوي في فم المجتمع ، وجسم كالزجاج الشفاف جميل ينكسر لأي طارئ قوي خارجي أو داخلي حينها يكون المجتمع كالمتوحش الذي يتصور أن أكل قلب الشابة شجاعة وتحطيم عفتها براعة باستغلال ضعفها الفكري والنفسي لتغدو ألعوبة بين فم ويد المجتمع ( تكوني ألعوبة بيد شخص منحط ) فالشخص ، المجتمع إن كان جاهلا فالجهل يدفع إلى الانحطاط والهوة العميقة ، وله شأن كبير في الواقع ليس الوهمي بل الحقيقي فهو يتجسد على الضعيف ذئبا وعلى المنكسر بطلا ( في داخله يتقمط ذئبا ) فغن لم نتفادى مصير الشابة المحتوم فسنكون في خطيئتها مشتركين فلا يحق لنا نكون متفرجين ، فغن لم نحافظ على عفتها وروحها فنكون قد شاركنا في اغتصباها بلا وعي منا .
(( قلت سأنسى
وإن صعب علي ذلك
إلا إنك أصريت أن تعيش
في صفوف المتمردين
وتكوني ألعوبة بيد شخص منحط
في داخله يتقمط ذئبا وفي قلبه دفنت سذاجته
يناديك من أجل أن ينتشل
من روحك لحم العفة )) .
ومن خلال هذه الرؤى من وجهة نظر الشاعر إبراهيم يلدا نراها تتخذ منحنى آخر ، يكشف مفهوم الخطيئة ويكرس مضمون المعاني المعاصرة لها بعد ظهور مفهوم العولمة العالمية وشبكة الانترنيت والكومبيوتر التي تعد مؤثرات خارجية تصعب على الشابة الفطرية النقية إتباع القوانين المعتادة ، والتمرد عليها قائم للتعويض بقوانين أخرى معاصرة دون التحكم على التصرف والسلوك ، وإن كانت هذه الصور موجودة بشكل علني أو ضمني فهي تتهم الآخر بالفشل والخنوع والرضوخ ، فهي ضحية أخرى من ضحايا المجتمع وجثة أخرى بين الجثث السابقة ورقما إحصائيا أخر للضعف والدناءة والانكسار .
(( وحين ينتقل من جديد
إلى ذبيحة أخرى
يصنع منك جثة لتصطف على جثة أخرى
وأنت من دناءة نفسك وضعفك
لا تحسين وهو يعيش بقلب إنسان ميت
وكونه هوة مملوءة بالمكر والدناءة )) .
يحاول الشاعر إبراهيم أن يوصل رسالة إنسانية للشابة والشاب والمجتمع ومن خلال صورة الخطيئة واستغلال الضعف والانكسار يحاول ان يجدد إعادة بناء مجتمع دثرته الحروب النفسية العصرية الملونة التكنولوجية والعنكبوتية السمعية والبصرية فالسقوط في الهاوية سهل لكن هل الخروج صعب ؟ بعد أزمنة الأصالة ونقاء الشابة العذراء ، نلاحظ هناك مباشرة في الطرح الشعري يوحي لنا الأسف الحقيقي لشابة بين ذئاب المجتمع بلا حماية فكرية ونفسية وعلمية وتفسير حالتها المنكسرة التي أتت من تجارب ورؤية الشاعر الواقعية فأطلق العنان لرغبته وقريحته الشعرية في التنفس والصراخ بصوت عال حينا وهادئ حزين حينا آخر لهذه القضية التي يعرف تغزو المجتمع وأفكار الشابة ورغبة جسدها من فراغ كبير يحوم فيه الشيطان كيفما يشاء .
*******************************************************
الرؤيا الإبراهيمية بين الموت والميلاد – الجزء السادس – طبع في أمريكا وفي مدينة
Des Plaines
دسبلين ،،، الينوي،،،، ,في مؤسسة
Press Teck .. بريس تيك . 2018 م