ليس بالأمر الغريب ان نجد عملا كـملحمة كلكامش يثير اهتمام كتاب ومخرجي المسرح الغربي الحيدث ، لأن هذا النص يتميز بخصائص درامية ومسرحية هائلة . وهناك الآن بعض الادلة التاريخية التي تزعم ان الملحمة كانت تعرض على الخشبة . ذكر( روبرت تمبل) ، الذي ترجم ملحمة كلكامش إلى الانكليزية شعراً ، نقلا عن بعض علماء الاثار ان أميرة عيلامية ذهبت إلى ارمينيا للزواج من ملكها . ورافقتها في الرحلة فرقة قدمت عرضا لملحمة كلكامش في حفلة زفافها . والنص العيلامي ، على حد قول تمبل ، هو على شكل مخطوطة مسرحية ، ومعظم ما هو محكي ينطق به كورس .
وهناك مبررات جوهرية أخرى سهلت حديثا أمر تحويل الملحمة إلى مسرحية ، نذكر منها قصر النص الذي لا يتطلب تمثيله اكثر من ساعتين ، خلوه من الوصف المطول والسائد في الادب الملحمي القديم ، كثرة الحوار ، والمشاهد الحسية التي يسهل عرضها على الخشبة ، قلة الشخوص وتنوع تكوينها النفسي ، ومحدودية مكان الفعل . والبعد الدرامي الآخر يتجلى في تعددية انواع الصراع : هناك صراع عامودي بين كلكامش والالهة أنانا ، صراع افقي بين كلكامش وانكيدو ، صراع سيكولوجي داخلي بين كلكامش وذاته ، لاسيما بعد موت انكيدو . واذا درسنا نص الملحمة على ضوء نظرية أرسطو للتراجيديا لوجدنا ان (وحدة الفعل) التي اعتبرها أرسطو أهم عنصر في الدراما تشكل المحور الاساسي للملحمة . ولا يعني ارسطو بوحدة الفعل مجرد حدث أو سلسلة احداث . بل ذلك الدافع الرئيسي الذي يحرض الشخوص على فعل يتطور عبر الزمان والمكان باتجاه هدف محدد . وهذا الهدف هو السمو الذي يتجلى في محاولة كلكامش المستمرة لتجاوز ذاته . ونجد في الملحمة عناصر درامية أخرى كالمفاجاة والترقب والتشويق ، فضلا عن عنصر (النقض) ، الذي يحيل كل ما هو موجب إلى سالب . كما يعتبر ارسطو ان العنصر الأخير وسيلة درامية هامة لانها تكشف للبطل المنتشي بانتصاره دون ان يعلم انه يسير إلى خيبة أو هزيمة مرتقبة . هذا الانتقال من الموجب إلى السالب يتجسد في الملحمة بالافعى التي تسرق نبتة الخلود من كلكامش وهو في أوج انتصاره ، وبذلك تستحيل كل انجازات كلكامش إلى خيبة ، ولكنها خيبة كل ابطال التراجيديا الذين لابد أن يواجهوا الحقيقة ويقبلوا بها .
منذ بداية الثمانينات قدم المسرح الاميركي ـ في ولاية نيويورك وحدها ـ ليس أقل من عشرة عروض لـملحمة كلكامش . وكانت هذه العروض لفرق طليعية واختبارية تعمل على تخطي المسرح التقليدي الذي كرسته (برودواي ). ولكن اول عمل مسرحي متكامل كان للشاعر الكندي (ميشيل كارنو ) الذي وضع مسرحيته الشعرية ( كلكامش) بالفرنسية وذلك عام 1970 ، وتم اخراجها في مونتريال عام 1972 ، كان كارنو في كتابته لمسرحيته حريصا ليس فقط على روح النص البابلي بل ايضا على تقنيته . لذلك جاءت مسرحيته مشحونة باجواء الشعائر الموحية بالطقوس القديمة والمتداخلية مع روح الحكاية التي تجسدت بالحكواتي . ولكي يضع جمهوره في تماس مع معاناة كلكامش ادخل كارنو الحوار الدارمي في ثنايا النص فجاء متناغما ونسيج الشعائر والحكاية اللتين تتميز بهما الملحمة .
قدمت فرقة (مسرح كرونك) اول عرض مسرحي لـملحمة كلكامش في 13 كانون الأول/ديسمبر عام 1975 اعتمد الاخراج على الحركات الايمائية كوسيلة لرسم الشخوص واثارة الدلائل والمعاني . كما لعب الرقص الحديث دورا هاما في تحديث العمل ، اما بعض الاحداث الخارقة التي تخللت العرض فقد اضفت عليه سمات الاثارة والتشويق . اما العرض الذي قدمته فرقة (مسرح ديركت) النيويوركية في 8 أيار 1975 ، فجاء اكثر تكاملا ، اذ استخدم المخرج الانماط التجريبية التابعة لفترة الستينات دون أن يقع في فخ الكليشيهات المملة . نوهت جريدة «ذي ويستسايدر» بهذا العرض قائلة (( كان كل شيء ناضجا وملازما للنص ، الامر الذي خلع على العرض هالة الاعمال الكلاسيكية ومعانيها دون السقوط في هوة الادعاءات . ان هذا الاخراج الجريء اعاد بناء المسرح برمته ليقوم برسم ابعاد شعائرية تثير الاحساس بمكان لاحتفالات طقسية قديمة ، وهذا أدى إلى خلق مكان رائع لاداء الممثلين عز نظيره في نيويورك )) .
وفي تشرين الاول/اكتوبر من عام 1981 قدمت فرقة (المسرح الايمائي الدولي) على خشبة مركز الفنون التابع لمسرح جامعة ولاية نيويورك . وفي هذا العرض استعيض عن الحوار بالايماء والاشارة والحركة ، فكانت المسرحية سلسلة من المشاهد المتحركة . أما عرض فرقة (مسرح لاترازا) في تشرين الثاني/نوفمبر من عام 1982 . فكان مجموعة متكاملة من مشاهد قصيرة ولكن شيقة . كان اداء الممثلين ايحائيا ، واستخدمت الاقنعة بغية تحويل بعض الممثلين إلى شخوص مثل همبابا وثور السماء . كما تمكن المخرج أن يوحي بغابة همبابا عبر اربعة ممثلين وقفوا ، بلا حركة ، على شكل لفافات خضراء .
وفي شهر تموز/يوليو من عام 1984 عرضت مسرحية كلكامش في متحف ( المتروبولتن ) للفن في نيويورك . قامت بهذا العمل فرقة (مركز نيويورك المفتوح) التي تشرف عليها المخرجة( بيفا روستن) . اعتمدت المخرجة في صياغة النص على ترجمة سنادرز للملحمة . كان عملها نسيجاً من الحكاية ، والحوار ، والحركة الايحائية . واستخدم الايماء في بعض ما كان يرويه الحكواتي ، وتم توظيف اداء الممثلين ليس فقط لنقل انفعالات داخلية بل كاداة لخلق الديكور وخلفية الحدث . استفادت المخرجة كثيراً من الفنون التشكيلية ، ولكن دون أن تستخدم موادها ، اذ كانت حركة الممثلين هي التي تقوم بدور الفنون التشكيلية في رسم المشاهد . وكانت الاقنعة التي صممتها (باربرا بوليت) صورا ممسرحة ومعمقة عن الفن الرافديني . لم يكن هم المخرجة التقيد بحرفية النص ، بل ارادت أن تخلق جواً يماثل في تأثره ما كان للنص الاصلي على جمهور الرافدين . واعيد عوض هذا العمل ثانية في أذار/مارس من عام 1986 ولقي اقبالا جيداً .
من جانب اخر كان أثر ملحمة كلكامش في الموسيقي الغربية الحديثة مهما وكبيرا، لان ليس هناك من فن نزع إلى التجريد أكثر من الموسيقى .
ففي الموسيقى نجد اللغة قد تحررت من قيود الدلالات والمعاني المحددة التي يسقطها الانسان على الالفاظ . فالموسيقى ، بمعنى آخر ، هي اللغة قبل أن تتقولب وتنال من مطلقيتها حتمية المعاني اللفظية . ومجازية ملحمة كلكامش كمجازية الموسيقى لها طاقة ايحائية ، الا انها تتجاوز محدودية الموحى به .
ومن هنا شغف موسيقيين امثال (نيكولاي بيرزوسكي) ، (وبوسلاف مارتينو) ،( والفرد بوهل) ، بالملحمة البابلية . وضع بيرزوسكي مقطوعته ((كلكامش)) عام 1947 ، وقدمت في صالات الموسيقى الاميركية . أما مارتينو التشيكي فقد الف مقطوعته الموسيقية ((ملحمة كلكامش)) عام 1958 قبل وفاته في سويسرا عام 1959 ، وظهرت مقطوعة يوهل النمساوي عام 1956 ، الا انه اعاد نسخها بين عامي 1968و1969 .
هناك مجالات أخرى كالفنون التشكيلية وقعت بدورها تحت تأثير ملحمة كلكامش ، ولكن الاطلاع عليها يقتضي القيام بمسح شامل لكل ما انجز حول العالم ، اذ هناك بعض الفنانيين الذين وضعوا بعض اللوحات من وحي الملحمة البابلية . يقال ، مثلا ، ان الفنان الايطالي(دينو كافاليري) قد رسم لوحات عديدة بوحي من قراءته لـملحمة كلكامش .
كثيراً ما تقف الترجمة عائقا بين الخصوصية اللغوية والقومية للاثر الادبي والشعوب المتلقية له ، الا ان الترجمات المتعددة لـملحمة كلكامش لم تقف عقبة في انتشارها ، لأن هذه الملحمة تستمد اصالتها من الافاق الانسانية وليس من التقاليد الادبية وحدها ، لهذا خرجت من سجن الترجمة منتصرة ، وانفتحت على كل لغات العالم لتفجر فيها ابداعات متميزة وتمد شعوبها برؤى جديدة . ان تجاوز ملحمة الرافدين للحدود الجغرافية والثقافية واللغوية يماثل تجاوز كلكامش لذاته ، وانفتاح الملحمة على شعوب العالم يشبه انفتاح كلكامش على الآخر محبة وعطاء وسمواً .