كلكامش في قصص الاطفال

Gilgameshبقلم: عضيد جواد الخميسي

كثيرا ما يعتمد كتاب الغرب على التراث الاغريقي القديم في اختيار عقدة قصصية ، أو شخصية اسطورية لها طاقة رمزية تستجلي مصير الانسان عامة في تجربة الانسان الخاصة ، مؤكدة على استمرارية الاسطورة في التاريخ ، ولكن “ ملحمة كلكامش “ قد شغلت اهتمام الادباء الغربيين ليس فقط من خلال عقدتها أو شخوصها ، بل حتى من خلال رؤيتها الفلسفية ، تلك المعاناة الانسانية التي اعتبرها ريلكه ـ الشاعر الالماني “ اعظم شيء يمكن أن يختبره الانسان “ . واليوم نحس بحضور هذه المعاناة البابلية في الادب بكل تفرعاته لتشمل حتى أدب الاطفال ، وفن المسرح والموسيقى واللوحة الفنية .

ككل الروائع العالمية التي تشغل اهتمام الكبار والصغار ، شقت ملحمة الرافدين طريقها إلى أدب الأطفال . قامت ,, برناردا برايسن ,, الكاتبة الاميركية بتحويل “ ملحمة كلكامش “ إلى قصة للاحداث ، نشرت عام 1969 تحت عنوان ( كلكامش هي قصة أول انسان ) . اعتمدت برايسن ، في كتابة قصتها ، على مراجع عديدة ، منها تاريخي ، واسطوري ، وأدبي ، وزودتها برسوم توضيحية . وفي محاولة لتعميق مفهوم الصداقة بين كلكامش وانكيدو اضافت قصة هبوط كلكامش إلى عالم الاموات ليلتقي بصديقه ويموت إلى جانبه .
تقسم برايسن قصتها إلى فصلين: الأول يدعى “ مزاج الآلهة “ والثاني ” تجوال كلكامش “ . وفي الجزء الأول تقوم بتعّريّف المكان والزمان والشخوص تمهيداً لتقديم معاناة شعب أوروك المنهمك في بناء أسوار المدينة . ثم تتجلى تلك المعاناة ، بشكل حسي ، في شكوى الشعب من قلة العمل وانتشار الظلم والقرف ، فتستغل (عشتار) ذلك الوضع وتحيل الشعب إلى الالهة (ارورو) التي تصنع انكيدو من الطين وتبعث فيه الحياة . وبعد ذلك يتبع الحدث القصصي في تطوره السياق العام للملحمة . غير ان برايسن لا تتردد في ادخال بعض الاضافات المشوقة كمجيء الراعي الذي يشكو لانكيدو من اسد دخل حظيرة ماشيته واكل بعضها ، فيذهب انكيدو ويمسك بالاسد ويطرحه ارضا دون ان يقتله ، ثم يطلق سراحه ويبدأ بالاهتمام بالخراف الجريحة . واتسم رسمها للشخوص والاحداث بالواقعية التي تجلت بالتفاصيل الدقيقة التي استوحتها من الكتابات الرافدينية ، كما عمقت احساس القاريء بانسانية انكيدو من خلال رفضه لقتل الاسد وعطفه على الحيوانات الجريحة . وأولت اهتماما خاصا بالتحولات النفسية عند كلكامش المعني بقضايا شعبه . نلمس مثل هذه التحول في قتل كلكامش لثور السماء وتوزيع لحمه على شعب (اوروك ). كما ان التقنية القصصية التي اعتمدت اسلوب الوصف الذي تتخلله مقاطع حوار درامية قد اضفت حيوية فريدة على النص واعتقته من رتابة الافراط في الوصف . أما التركيز على قيم الصداقة ، والتضحية ، والمحبة ، والتعاون فقد جعلت من قصة برايسن احدى روائع أدب الاحداث في أميركا .

ومن ضمن أدب الأطفال ايضا قامت( لودميلا زيمان) الكندية بكتابة قصة للأطفال ، مستوحية عقدتها واحداثها من ملحمة بلاد الرافدين ، ونشرتها دار( توندورا بوكس ) بعنوان “ كلكامش الملك “ . ولأن المؤلفة تتوجه لاطفال لا تتجاوز اعمارهم سبع سنوات ، فلقد بسّطت العقدة القصصية واختزلت احداثها دون التفريط بعناصر التشويق ، والاثارة ، والمفاجئة التي رافقت القتال بين كلكامش وانكيدو ، القتال الذي ينتهي بصداقة يعز نظيرها ويتوج في خروج كلكامش من عزلته الخانقة بعد استدراكه للاخطاء التي ارتكبها بحق شعبه ، وعلى أثر ذلك يكرس كلكامش حياته ، بالتعاون مع انكيدو ، لخدمة الشعب ورفاهيته . بالرغم من قصر النص وتبسيطه تمكنت الكاتبة ببراعة فذة ان تمد القاريء الصغير بالدوافع والمبررات اللازمة للتحولات النفسية والاخلاقية عند الشخوص القصصية . والجميل في هذه القصة هو الدور الذي لعبته (شامهاة )، كاهنة المعبد ، التي تسببت في خروج انكيدو من عالم الحيوان وتأنسنه . اعطت المؤلفة لـ شامهاة دورا كبيرا ، اذ كان لها حضور دائم ومشاركة فعالة في احداث القصة . بالاضافة إلى النص هناك رسوم توضيحية ترافق الاحداث في كل خطوة وتعوض عما يسهى عنه القارئ الصغير ولكي تعمق شعور الصغار بقدم النص استوحت الكاتبة في رسومها الخط المسماري وفنون النقش البارز والنحت والعمارة لحضارة آشور وبابل .

About عضيد جواد الخميسي

كاتب عراقي
This entry was posted in الأدب والفن, دراسات علمية, فلسفية, تاريخية. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.