قُتل الشَّاب العراقي الوسيم «كرار نوشي» (السبت/1/يوليو/2017) بوحشية مألوفة لدى المحترفين، مُزق جسده النحيف بالطعنات، وكسرت يده، مع رصاصة في مؤخرة رأسه، هذا ما قاله ذووه بعد تسلم جثته مِن الطِّب العدلي، والتي وجدت مرميةً في مكبِ نفاياتٍ بشارع فلسطين ببغداد. كان كرار طموحاً بإشاعة الحياة عبر المسرح، وسط فواجع الموت المستمر، وأُشيع عنه أنه مشارك في مسابقة «ملك جمال العراق»، فرد مُكذباً الإشاعة: «ملك جمال العراق الجندي المقاتل ضد داعش».
لم يكن كرار أول القتلى ولا الأخير، بسبب مظهره، أو ما لا يُرضي المدَّعين بالفضيلة، إنما سبق أن بُث الرِّعب في ما عُبر عنهم بشباب «الأيمو» (2009)، وكرار ليس منهم، بقدر ما كان خفيض الصَّوت محباً للجميع، محاولاً إيجاد عراق آخر بعيد عن ثقافة التحريض الديني، واغتيالات كواتم الصوت.
قبل ذلك، قُتلت عشرات النساء بحجة مخالفة الأخلاق (2013 و2014)، وتصفية شباب إيزيديين ومسيحيين (2016)، مع أن الأخلاق تُهدر بالفساد والشعوذة على مدار الساعة، وبالولاء الخارجي المفضوح، وبتهريب الإرهابيين من السجون، وعدم تحمل مسؤولية سقوط الموصل، وكارثة سبايكر (2014).
تمادى خُطباء المنابر، من معتمري العمائم ومتلفعي الأكفان، بالتحريض ضد الشباب، بتهمة الانحراف، يصبونها في أسماع الجماعات المسلحة السائبة صباً، فيتراكم التحريض ليسفر عن جريمة بشعة كقتل كرار. فمن المعلوم أن العراق بلد الحرية المطلقة في الخطاب الديني، بحماية الميليشيات التي تتوالد باستمرار، وهل أكثر استخفافاً بالدولة والمجتمع من معمم يعترف على الملأ باختطاف ستة من الشباب، ويعلن فضله بأنهم أُطلقوا سالمين! بهذا التهديد ختم كلمته التبريرية، بمعنى أن ما فعله مسلحوه كان مجرد تنبيه وتحذير!
برزت حينها أقلام وأصوات بغيضة مؤيدة للخطف والاغتيال، وذلك لإنكارها الظاهرتين، على أنها من تلفيق الضحايا أنفسهم ضد التيار الديني، ولا يُستبعد أن مَن اعتبر قتل الفنان كرار نوشي، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تأديباً لمَن يرسل شعره، ويلبس ثياباً أنيقة (ليست مِن مال حرام) مدفوعون بثقافة التحريض تلك.
بهذا لم ترتق بغداد بقتل كرار إلى ما كانت عليه في الأمس البعيد. قرأتُ عمن عُدَّ مِن الأعيان حينها: «البدر محمد بن الفراش المغني شابٌ جميل الصورة، مشهور بحسن الغناء، وطيب الصوت، وكانت وفاته يوم الأحد حادي عشر صفر المذكور (سنة 598هـ) وشيعه خلقٌ كثير، وفُجع الناس به، وحزنوا عليه» (ابن الساعي، الجامع المختصر في عنوان التواريخ وعيون السير). حصل ذلك في خلافة النَّاصر لدين الله (ت 622هـ)، الذي حكم 47 عاماً، جاعلاً بغداد آمنةً، وأنهى ازدواجية السلطنة والخلافة بالقضاء على السلاجقة.
أقول: هل صار زمن إشاعة القُبح عدواً للجمال إلى حد القتل، بينما عُرف العشرات من أهل الوسامة في تاريخ المنطقة، كانوا يتحجبون مخافة النساء على أنفسهم، منهم: زيد الخيل الطَّائي، وقيس الجعفي، وأمرؤ القيس، وابن الخَطيم (ابن حبيب، كتاب المُحبر)، وقد نُسب للأخير البيت الأكثر جمالاً: «نحن بما عندنا وأنت بما عندك/ راضٍ والرَّأي مختلفُ» (سيبويه، الكتاب)، وقيل البيت لأحد ملوك الحيرة.
لم يُقتَل نصر بن حَجَّاج السَّلمي لفرط جماله، فلما كثر الكلام عنه حتى صار فتنة ذلك الزمان، وقالت إحداهنَّ فيه: «هل مِن سبيل إلى نصر بن حجَّاج»، خيّره الخليفة عمر بن الخطاب (اغتيل 23هـ)، بأي مكان يريد الإقامة، فاختار البصرة ليعيش قريباً من عمه، فبعثه إلى هناك، وأجرى له معاشاً (ابن سعد، الطبقات الكُبرى).
عَلام قُتل كرار، الطامح بالخروج إلى العالم بفنه، إذا لم يقتله زمن القُبح لجماله؟ هل لإرسال شَعره؟ مع أن الأجداد، من العامة والخاصة، وإلى زمن قريب، كانوا يتفاخرون بطول الضَّفائر، فلكلِ زمن أعرافه، شأنها شأن الملابس تتبدل أشكالها بتبدل الأجيال والأحوال، لا دخل للدِّين ولا الأخلاق والشرف في الأمر.
أما إذا قُتل لتفرغه للفن، فالواثق بدين الله العباسي (ت 233هـ)، لم تخل ألحانه الموسيقية والغنائية في حكمه وشخصه، جاء في سيرته: «كان كريم النفس عالي الهمة، يتشبه بالمأمون في أخلاقه وحلمه، وكان هو الذي رباه، وحج بالناس، وكان كثير الإحسان إلى العلويين، مراقباً تعالى في جميع أحواله وأقواله» (ابن الكازروني، مختصر التاريخ من أول الزمان إلى منتهى دولة بني العباس).
كانت جريمة تصفية كرار نوشي موجهةً إلى كل مخالفٍ لثقافة الشَّرِّ، إلى كلِّ فنان محبٍ للحياة، يحاول التغيير مِن موقعه، وما رمي جثته في مكب الأزبال إلا رسالة مدروسة، إنها رسالة تحريض عمائم المنابر، فلسان حالهم يقول: «ظلامنا وسواه زبالة».
* نقلاً عن “الاتحاد”