هل يمكن أن تنجح محاولة الكتابة والطرح فى غير الحقول التى إعتادها القارئ، والتى استراح إليها؟، فعلى الرغم من أن الموضوعَ المطروح مرتبطٌ بالكنيسة والأقباط فإن سطوره لا تنتج ” كتاباً قبطياً ” بفعل إشتباك قضاياه بالواقع المصرى، ورغم أنه يتعرضُ لواقع الرهبنة والتعليم الكنسى إلا أنه ليس ” كتاباً كنسياً عن الرهبنة أو لاهوتياً “، وفيما هو يتناول قضايا العلاقة بين مكونات الكنيسة وترتيباتها الإدارية إلا أنه لا يُحسب ” كتاباً فى الترتيب الكنسى “، وقد تقترب السطورُ من وقائعَ تاريخية موثقة وبعضها عاشها الكاتبُ واشتبك معها بضراوة، لكن هذا الإقترابَ لا يجعلُ منه ” كتاباً فى تاريخ الكنيسة والأقباط “.
ظنى أن سطورى مجردُ اقترابٍ من حقبة تمتد إلى مايزيد عن قرن فى بعضها، وتشتبك مع نصفه الأخير، وتحاول أن تجيبَ على أسئلة تبحث عن إجابات، بعيداً عن الإنطباعية، وهى فى بعضها شهادة شخصية وفى مجملها محاولة لرسم خارطة طريقٍ للخروج من نفقٍ إمتدَ طويلاً.
وفى كل الأحوال هى محاولة لتدشين طريق القراءة النقدية فى أدبياتنا القبطية دون أن تنحرف إلى الشخصنة ودون أن تنتهى إلى عداوة ومصادمة، وهى فى ظنى مغامرة أخوضُها متسلحاً بقدرٍ وافر من حبٍ لتلك المحبوبة التى ترَّبى وجدانى بين أحضانها، وأدينُ لها بالكثير .. الكنيسة.
وقد تنتهى إلى خلق تيارٍ مستنير، أتمناه وأسعى إليه، يحققُ الإنتقالَ من الفرد إلى المؤسسة، وينقل المنهجَ الأبوى من دائرة التسلط إلى عمق السلطان الروحى بالمحبة الذى ينير مساحاتٍ معتمة فى الذهنية العامة، وفى ذهنية الخدام ـ علمانيين وإكليروس ـ ويعلن المسيحَ الحقيقى وحدَه ويجمعنا إليه، ويستطيع العبورَ فوق مساحاتِ النفور التاريخية المتراكمة، لقرون، عبرَ بناء جسور الوعى بجوهر عملِ المسيح المُصالِح، داخل الكنيسة وبينها وبين اخوتها، لتصبح، معهم، واحدة مقدسة جامعة رسولية.
وقد تكون سطورى صادمة لمن استقر عندهم الخلطُ بين الشخوص والكيان، كمُنتجٍ طبيعى لغياب البعد الآبائى فى العديد من مواقع التعليم التى يتبناها معلمون معاصرون إستهواهم النسقُ الغربىُ الذى يعتمد على التحليل الفلسفى التنظيرى دون الرجوع إلى التسليم الآبائى المرتبط بمفاهيم الكنيسة الأولى، فتبنوه شكلاً بعد تطعيمه بحِلياتٍ آبائية وحكايات تراثية وطيفٍ من قصص المعجزات. وتمثل العودة للتقليد الأرثوذكسى الضوءَ الكاشفَ لإختلالات هذه المصادر التى حققت قدراً من الشعبوية، ويشق على مريديهم القبولُ بالعودة للآباء.
بل قد يصدمُك أنهم يقيسون الآباءَ عليهم وليس العكس[1].
وفى هذه الأجواء شهدتْ الكنيسة محاولاتٍ للتنبيه إلى حاجتها إلى العودة لفكر الآباء لكنها كانت تواجه بمقاومة ورفض وتشويه يطيح بغالبية من قادوا هذه المحاولات، بداية برفاق الدرب، ومنهم على سبيل المثال الدكتور سليمان نسيم والدكتور وليم سليمان قلادة، ومنهم الدكتورُ مُراد وهبة فى إقصاءٍ مبكرٍ لتوجهاته التنويرية، ويلحقُهم الدكتورُ جورج حبيب بباوى، بل وتمتد إلى قامتين من الإكليروس؛ الأنبا غريغوريوس اسقف المعاهد اللاهوتية العليا والبحث العلمى، والعالم اللاهوتى الآبائى الأب القمص متى المسكين، وتتلقفهم ماكينة التشويه والتشكيك لتطوح بهم فى إستهداف هستيرى على مستويات متعددة.
ويبرز إسم الأنبا بيشوى مطران دمياط ليحتل موقعاً بارزاً فى المشهد فى هذه المرحلة، ويشغل موقعَ سكرتير المجمع المقدس والمجلس الإكليريكى لنحو ربع قرن (1985 ـ 2013) بعد خروج البابا شنودة من الإقامة الجبرية بدير وادى النطرون وحتى رحيل البابا.، بعد إقصاء الأنبا يؤانس أسقف الغربية، عن موقعه كسكرتيرٍ عامٍ للمجمع، لقبوله عضوية اللجنة الخماسية التى شُكلتْ لإدارة الكنيسة فترة اعتقال البابا.
ويسند إلى مطران دمياط مسئولية المجلس الإكليريكى المنوط به محاكمة الكهنة، ويعتبر اليد الحديدية للبابا، ويبقى محلَ جدل وتساؤل، خاصة وأنه إستَدعَى للمحاكمة أمامه العديدَ من الكهنة إنتهت فى أغلبها إلى الإيقاف عن الخدمة والقطع، ووصلتْ الى ذروتها عام 1994، فى محاكمات إستندت إلى التقدير الشخصى وغابت عنها القواعدُ والإجراءاتُ التى كان يجبُ أن تتوافر لها، كانت قراراتها بحسب القريبين من دائرتها تتخذ سلفاً، وتأتى جلساتُ التحقيق استيفاء للشكل.
كان أبرزُ ضحايا المحاكمات الكنسية، غيرِ القانونية، الأب القس إبراهيم عبد السيد، وقد إمتدت ملاحقته لما بعد نياحته ورحيله بصدور قرار بعدم الصلاة على جثمانه، ونشهد ملاحقة ومطاردة للجثمان من كنيسة إلى كنيسة لتنتهى به إلى الصلاة عليه بكنيسة المدافن بأرض الجولف بمصر الجديدة، التى تصلها أوامرُ الرئاسة الكنسية متأخرة بينما المشيعون يغادرون بعد إنتهاء الصلاة التى قام بها الراهبُ القمص أغاثون الأنبا بيشوى[2].
وقد تكونُ سطورى محفزة لإستنهاض حركة الترجمة والتعريب المؤسسى لتعليم الكنيسة الأولى خاصة مع تطور علوم الترجمة والتعريب، لنسترد مجدداً الوعىَ اللاهوتى بالعقائد والطقوس والترتيب الكنسى ونتصالح معها، لبناء الشخصية القبطية الأرثوذكسية باتجاه فهم واستيعاب الحياة فى المسيح، وتعود الكنيسة إلى دورها التنويرى الذى ينعكس بالضرورة على الحياة اليومية وتسهم فى دعم الإندماج المجتمعى فى دوائره المختلفة ومن ثم تتحقق عطية المسيح التى لنا بصيرورتنا خلاصاً ونوراً للعالم وملحاً للأرض.
هى سطورٌ تطرح أسئلة تشغل بالَ الكاتب وربما القارئ معه، ولا تدعى أنها تقدم أجوبة، أو تملكها، لكنها تبحث عنها وتفتح البابَ لمزيدٍ من أسئلة تحتجزها أجواءُ مسيطرة باتتْ تتربصُ بمن يحاولُ أن يسأل، ومكارثية معاصرة تفتش فى الضمائر وتشكك فى النوايا، وترسم توهماتِ مؤامرة تغذيها مناخات التعتيم والتجريف.
وتحمل السطور تساؤلاتها لتضعها أمام مراكز التفكير Think tanks بالكنيسة وقادة الرأى والفكر بها تسألهم إجابة، ترأب صدعاً مرشحاً للتفاقم شهدته الكنيسة يتنامى بإمتداد نصفِ قرن، كاد أن يطال القواعدَ والقضايا الإيمانية الأساسية، ولم يُحسمْ بشكلٍ أكاديمى تأسيساً على تقليد الكنيسة فى صحيحه، لكنه تُرك للمعارك الإعلامية الكنسية التى كانت فى بعضها تلاسُناً، ربما بسبب إختلالات التأسيس والبناء عبر محاولات التجديد الفكرى التى بدأت مع مطلع القرن العشرين.
هل نملك إمكانية إعادة طرح ودراسة وحسم قضايا تأليه الإنسان، ولاهوت الأسرار، والسلطان الروحى، والإفخارستيا، ومفاعيل النعمة، والعلاقة مع الثالوث، والمواهبية، وجدلية العلاقة بين الإكليروس والعلمانيين، وجدلية الرهبنة والخدمة، وتنقية التراث الحياتى والطقسى من اختراقات مفاهيم الطهارة بحسب الناموس، وغيرها من القضايا التى فجرتها المواجهات مع ثلاثة أقطاب كنسية؛ الأنبا غريغوريوس والأب متى المسكين والدكتور جورج حبيب بباوى، بعد أن أُغلق دونها البحثُ إنحيازاً لما قطع به قداسة البابا شنودة الثالث، وهى آراءٌ تم اعتمادُها بغير أن يتم تناولُها على مائدة البحث، أو داخل مراكز الدراسات المتخصصة بالمعاهد اللاهوتية فى ضوء أدبيات وأبحاث الكنيسة الأولى والأباء المؤسسين، ليتحول الرأىُ الشخصى إلى تعليمٍ كنسى مقطوع به، بالمخالفة لمنهج الكنيسة الذى أخذتْ به المجامع، مسكونية ومكانية، خاصة عندما يكون على الجانب الأخر فى هذه المواجهات قاماتٌ لها ثقلُها العلمى والأكاديمى والروحى، ومحلَ تقدير واعترافٍ المراكز البحثية اللاهوتية ذات الوزن العلمى.
هل نتخذ خطواتٍ على الأرض لتوثيق القوانين الكنسية فى مجموعات قانونية ملزمة وهو عمل أكاديمى فنى يضبط العلاقاتِ البينية بالكنيسة، ويقلِّص مساحاتِ الإنفراد بالقرار وفقَ الرؤى الذاتية، ويعيد الإنتقالَ من الفرد الى المؤسسة مجدداً، فى فهمٍ صحيحٍ للسلطة والأبوة والتدرج الوظيفى لتصبح كلُها أدواتٍ لحسابِ الجسدِ الواحد ونموه وحيويته؟.
وفى كل الأحوال تبقى سطورى محاولة جادة تسعى لبعث حراكٍ فكرى يؤسسُ لحوارٍ موضوعى قادرٍ على المناقشة دونَ تخوين أو تجريم أو تشكيك، وقادرٍ على قبول الإتفاق والإختلاف والجدل الموضوعى فى اتجاه البناء والتكامل، فى تنبيه للسلبياتِ التى قد يجدها فى السطور، ويصححُ القصور الذى قد يكتشفه فيها
[1] يذكر الأب متى المسكين فى كتابه “اثناسيوس الرسولى” فى مقارنة تكشف الفرق بين المدرستين أن القديس اثناسيوس أحب المسيح فعقله، بينما حاول آريوس أن يعقل المسيح دون أن يدرك سر الحب فلم يقبله إلهاً متجسداً. وهو ما كشفته مواجهات مجمع نيقية المسكونى 325 م. والتى انتهت الى إقرار الإيمان الذى صاغه القديس اثناسيوس وأقره المجمع فى قانون الإيمان الذى تسير عليه كل الكنائس اليوم.
[2] كنت شاهد عيان على هذه الأحداث، وأذكر أنه عندما قصدنا كنيسة العذراء بأرض الجولف، بمصر الجديدة، القاهرة، وجدناها موصدة ورفض عمال البوابة وحراسها فتحها، فقابلنا كاهنها ومعنا الدكتور سعد الدين ابراهيم عالم الإجتماع ومؤسس مركز إبن خلدون والذى رافقنا فى رحلة البحث عن كنيسة تقبل الصلاة على القس الراحل، من شبرا لمصر الجديدة، أخبرنا كاهن الكنيسة بأن لديه تعليمات واضحة وصارمة من الكاتدرائية بعدم الصلاة عليه، واتصل الدكتور سعد الدين بالبابا بأمريكا الذى شكره على اهتمامه لكنه أخبره بأن هذا القرار يدخل فى إطار الشئون الدينية الدقيقة التى لا يعرفها الدكتور، عرض د. سعد الصلاة عليه بمركز ابن خلدون وإقترح أحد الحضور الصلاة عليه فى كنيسة انجيلية، فانفرجت اسارير كاهن الكنيسة قائلاً هذا أفضل ماهو كان بروستانتى اصحابه أولى به (!!)، كان كاهنا صادماً، ومرتبكاً، ومعذوراً، فالمقصلة تخايله، خرجنا وأشرت على المجموعة التوجه للمدافن والصلاة بكنيستها على غير توقع الملاحقين، وقد كان.