رباب كمال: دوت مصر
“المرأة يجب أن تكون مستورة حتى لا يشك زوجها في بنوة أبنائه منها”
يالها من عبارة صادمة، برهنت على احتقار المرأة في الخطاب الديني الذي أسسه بعض الدعاة. سمعت هذه العبارة و سط جمع من الزميلات المتعلمات المتطوعات في منظمات المجتمع المدني التي تهتم بقضايا المرأة خاصة الحق في التعليم والحماية من العنف الأسري والختان، وكلنا متطوعات في المناطق الفقيرة المهمشة.
العبارة لاقت استهجانًا وسخطًا من نساء يُدافعن عن حقوق المرأة بضراوة ويجتزئن من وقتهن لمساعدة الفتيات في القرى والنجوع. أثارت العبارة حفيظتهن وأكدت الكثيرات منهن أن هذه الفتاوى دخيلة على الخطاب الديني المعتدل، وأن فتاوى السلفية حقرت ودنست من شأن المرأة.
بالتأكيد اتفقتُ معهن في الرؤية ولكن الطامة الكبرى هي أن هذه المقولة لم تكن فتوى سلفية بل كانت من بنات أفكار إمام الدعاة الشيخ الشعراوي ( 1911-1998)، والتي صرح بها في شهر رمضان عام 1984.
انفصام المواقف بين الاستنكار والدفاع
إمام الدعاة كان دومًا خطا أحمر والمدافعون عنه باستماتة رفعوه إلى منزلة المعصوم من الخطأ، رغم أنهم لا يعرفون عن أفكاره الكثير سوى تقديمه تفسيرا للقرآن قبل مدفع الإفطار في شهر رمضان على شاشات التلفزيون، وأنه كان على خلاف مع جماعة الإخوان المسلمين منذ عام 1938 بسبب قصيدة مديح كتبها للزعيمين الوفديين مصطفى النحاس وسعد زغلول وهو ما أغضب الجماعة.
اعتبر المدافعون عن إمام الدعاة أن خلافه مع جماعة الإخوان دليل دامغ على خطابه الديني السمح. تناسوا هؤلاء أن الشيخ محمد الغزالي ( 1916-1999) اختلف مع الإخوان تنظيميًا ولم يمنعه ذلك من الشهادة في محاكمة قتلة فرج فودة حين دافع عن المجرمين قائلا: “يجوز أن يقوم أفراد الأمة بإقامة الحدود عند تعطيلها”. فالاختلاف مع الإخوان ليس برهانًا على السماحة والدليل على ذلك أن السلفيين هم أكثر من اختلفوا تنظيميًا مع الإخوان المسلمين، ولا يعني هذا بالضرورة أن اتجاهاتهم الفكرية كانت أكثر سماحة أو حداثة بل العكس صحيح!
لذا لا بد أن نتفكر في حالة الانفصام التي نعيشها ما بين رفض واستهجان الفكر المتطرف وما بين الدفاع المستميت عن صاحب الفكر الذي نستنكره لمجرد أننا صنعنا منه أيقونة. فالدعاة بما فيهم الشعراوي بشر يخطئون ويصيبون ولو أن أخطاءهم في بلاد يعمها الجهل والأصولية المترسخة قد ُيكلف الوطن أرواحًا وشهداء وأزمات طائفية نحن في غنى عنها.
هل نبشتُ قبر الشعراوي ؟
لماذا اعتبرنا رفض فتوى تحمل تحقيرًا للمرأة، نبشا لقبر صاحب الفتوى؟ ألا يمكن لنا مثلا أن نكون ناقدين للفكر وللإرث الذي خلّفه من بعده، ونحاول أن نحد من تأثيره؟ فالدعاة يرحلون عنا ويتركون لنا إرثًا من الفتاوى الكارثية التي نظل نناهضها في بيئة حاضنة للجهل والتطرف.
يتمتع الشيخ الشعراوي بشعبية جارفة لدى المصريين بشكل عام وخاصة في الكفور والقرى والنجوع، وكانت فتاواه عن الختان رائجة حتى بعد مماته بسنوات عديدة، رغما من المجهود المضني لمنظمات المجتمع المدني والدولة في التوعية ضد الختان واللجوء إلى فتاوى دينية أخرى تحرمه.
فتوى الختان الشعراوية
في حوار الكاتب والباحث الإسلامي محمود فوزي مع الشيخ الشعراوي والذي تم طرحه في كتاب يحمل عنوان فتاوى العصر، قال الشعراوي نصًا بلغته العامية الممزوجة بالفصحى:
“بالنسبة للمرأة فالختان كرامة، لأن القدر الزائد يكون خارجًا عن الشفرتين، فإن كان مرتفعًا وجاء الثوب عليه أو مر به أهاج شهوة المرأة وإذا هاجت شهوة المرأة جعلها تطلب الرجل فتكون هلوكًا، إذن نشيل هذا الزائد علشان دائما لا تصبح في حاجة لهذا الموضوع. إذن يصبح هذا كرامة للمرأة لأنها لو ظلت كما هي ستصبح هائجة، وتحتك بالرجل وتتمحك فيه، يعني إذا كان هناك شيء زائد عن الشفرتين اخفضيه لكن لا تقطعيه حتى آخره، لأن هذا من شأنه أن يتعب الرجل!” ( المصدر : كتاب الشيخ الشعراوي و فتاوى العصر – الطبعة السادسة – دار الجداوي للنشر – ص 74 و 75 )
غض البصر
حاولت أن أتخيل إن كانت فتاوى كهذه تم إصدارها في زمن الإعلام الحديث والتواصل الاجتماعي والسماوات المفتوحة، هل كانت ستمر علينا مرور الكرام مهما بلغت مكانة قائلها؟ صدرت هذه الفتاوى في مجملها في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي الذي توهجت فيه الفتاوى الأصولية دون رادع، ولم نسمع الإعلام يتصدى لفتاوى خطيرة كهذه ولربما يرجع هذا لسببين:
أولا: الدولة بمؤسساتها كانت تغض البصر عما يقوله الشعراوي تحديدا بسب قربه للنظام الحاكم، وهو ما اتضح جليا حين مدح الشيخ الرئيس الأسبق مبارك قائلا: “إن حاكم مصر لم يأمر بما يخالف الشرع”. (المصدر :مجلة المصور عدد رقم 3720 الصادر بتاريخ 26 يناير 1996 )
ثانيا: لم تكن وسائل الإعلام متعددة كما هي الآن سواء أكان إعلاما حكوميًا أو خاصًا، فالأبواق الإعلامية كانت ُمحتكرة بشكل كبير وتهيمن عليها الدولة ولا يبدو أن الدولة كانت ستسمح بحملات إعلامية تعترض على فتاوى الشعراوي طالما أنه لا يناهض أولي الأمر.
الموضوعية ستحتم علينا ألا نختزل تاريخ الشعراوي في فتاوى بعينها إلا أن هذه الفتاوى لا يجب أن تمر مرور الكرام ونغض البصر عنها كما فعلت الدولة، لمجرد أن الجماهير صنعت من الشعراوي صنمًا لا يُقبل الاقتراب منه، واضعين في الاعتبار أن الأثر السلبي لتلك الفتاوى في تغييب العقول كارثيًا، مدركين أن الداعية ليس إلهًا.
معركة د. فؤاد زكريا مع الشيخ الشعراوي
وسط هذا الصمت المدوي، تزعّم د. فؤاد زكريا أستاذ الفلسفة ( 1927-2010) معركة فكرية ضد فتاوى الجهالة والتجهيل في الثمانينيات حين تجرأ وكتب مقال”كبوة الشيخ” عام 1984 ردًا على ادعاءات الشيخ الشعراوي.
كتب د. فؤاد زكريا هذا المقال، رغما من شعبية الشعراوي التي أخرست كثير من أهل النخبة، إلا أن المقال لم يُنشر في مصر، فلربما خشى الكثير من رؤساء التحرير من تلك الشعبية الواسعة، لذا تم نشر المقال في جريدة القبس الكويتية.
وقام بعدها د. فؤاد زكريا بتوثيق رده على فتاوى الشعراوي في كتاب الحقيقة والوهم في الحركات الإسلامية المعاصرة – 1986 كتب د. فؤاد زكريا في مقال ” كبوة الشيخ ” ردا على تشكييك الشعراوي في بنوة أبناء المرأة غير المحجبة قائلا:
“وهكذا يقرر الشيخ ببساطة شديدة، أن المرأة المستورة أو المحجّبة هي وحدها التي تنجب لزوجها أبناء يكون واثقاً من أنهم أبناؤه، أما إذا لم تكن كذلك، فإنّ الأمر يظل موضع شك! وحين يعرض الشيخ شعراوي نظرية أخلاقية كهذه، لا يملك المرء إلا أن يشعر بالالم والحزن على نوع التفكير الذي يوصل إلى مثل هذه النتائج.. وهكذا تختزل المرأة كلها إلى عنصر واحد، هو الجسد والجنس، وننسى المرأة العاملة والمرأة المشتغلة بالعلم”.
وردًا على مقولة الشيخ الشعراوي بأن الأقمار الصناعية والتكنولوجيا مضيعة للنقود وأن الكلينكس (المناديل الورقية) اختراع أهم بكثير لأنه يمسح اتساخ اليدين، تساءل د. فؤاد زكريا:
“لمصلحة من يقال هذا الكلام في بلاد تكافح من أجل اللحاق بركب العلم والتكنولوجيا.. وماذا يكون وقع هذه الكلمات على أسماع الأجيال الشابة الجديدة، التي تعيش أعداد كبيرة منها في أسر مفتونة بالشيخ ومتقبلة لكل حرف يقوله وكأنه كلام لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟ ألا يدري الشيخ أن مستقبلنا مرهون بالعلم..؟”
الخاتمة :
يشهد شهر ديسمبر هذا العام الذكرى الـ 88 لمولد المفكر المصري د. فؤاد زكريا الذي خاض عدة معارك ضد الأصولية سعيًا لإرساء قواعد دولة مدنية. ُأطلق عليه فيلسوف العقل واتسم بالجرأة والهدوء وتقديم الحجة والأفكار المرتبة في الرد على الفتاوى المتطرفة من ناحية وعلى جماعات الإسلام السياسي من ناحية أخرى. لم يأبه بحملات التشهير التي نالت منه، من على منابر المساجد واتهمته بالكفر والبهتان العظيم بعد نصر أكتور 1973 .
كان المفكر المصري قد نشر مقالا تحت عنوانا “معركتنا والتفكير اللاعقلي” بعد معركة العبور قال فيه: “إنه من الظلم البيّن أن ننسب الانتصار العسكري الوحيد الذي أحرزناه في العصر الحديث على الأعداء إلى الملائكة، وننكر الجهد الشاق الذي بذلته القوات المسلحة في التدريب والإعداد والاستعداد الشاق”.
إن البحث في تاريخنا الحديث والمعاصر عن معارك الأصولية والفكر الحديث ليس حنينا للماضي ولا هو نبش قبور الدعاة والأئمة، بل محاولة استرجاع مواقف واضحة في مناهضة الفكر المتطرف وسياسة تغييب العقول.
د. فؤاد زكريا له العديد من المؤلفات في هذا الصدد وتتميز كتاباته بالسلاسة وخلوها من المعاني المركبة والمعقدة، أي أنها تصلح كنماذج لمقررات دراسية في التعليم ما قبل الجامعي، هذا إن كانت الدولة جادة في إصلاح التعليم كجزء من خطة مواجهة الأفكار المتطرفة ونخص بالذكر منها: التفكير العلمي (1978) والحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية المعاصرة ( 1986) والصحوة الإسلامية في ميزان العقل ( 1987) .
بعض من فتاوى الشيخ الشعراوي
مقال جميل ورصين كجنابك. لابد من نبش قبور الاصوليين وقد تركوا ارشيف من مقاطع فديو مليئة بالخزعبلات والفتاوي التعسفية تحت زهو المنبر! ولو انهم تنبئوا بظهور اليو تيوب لعرض أرشيفهم بعد وفاتهم لما سمحوا بتسجيلها حينما كانوا احياء