أقترب الدوام من نهايته وفي النصف الساعة الاخيره اصبح الكل مشغول بالتحضير للعودة الى المنزل . استعرض بعض الموظفين قوائم طلبات الزوجات من المواد الغذائيه وراحوا يحسبون التكاليف ، وهم يلعنون الاسعار ورمضان وكل الضيوف والزوار الذين لا يتذكرونهم الا في هذا الشهر دون شهور السنة .
فقررت استغلال الوقت والهرب من العمل قبل الازدحام فوجدت المصعد مشغول وطابور طويل يقف بالانتظار فنزلت من على السلم .
وبعد نصف ساعة وجدت سيارتي المتهالكة بسبب الجوع وعدم التركيز الذي اعانيه بسبب رمضان .
كانت الطريق مزدحمة جدا وبالكاد كانت السيارات تتحرك في مدينة تبدو وكأنها تحترق ،فالادخنة بكل الوانها المعروفة وغير المعروفة تتصاعد من الشقق السكنية، ادخنة لحوم تحترق ، وزيوت تحترق ، وابخرة قدور تغلي ، وكان الرذاذ المصاحب لها يسيل الدموع ، لان ربات البيوت يفرمن ويقطعن كميات كبيرة جدا من البصل والذي اغرقت رائحته المدينة في بحر من الدموع .
كان المنظر مروع وكأن المدينه تعرضت لقصف جوي همجي اشعلها بالكامل ،ومع كل هذه المعاناة اخذ هاتفي يرن ، واستطعت بصعوبة الاجابة كانت زوجتي تذكرني باحضار الحلويات والمعجنات والمكسرات والليمون وغيرها من المواد الرمضانية .
اغلقت الهاتف وتوقفت بصعوبة امام مول مزدحم وانا اختنق من روائح البصل الى روائح افواه الصائمين وعرقهم ، وفي النهاية وبعد اكثر من ساعة نجحت بتنفيذ طلبات زوجتي بحذافيرها دون نقصان مما جعلني فخورا مرفوع الرأس ، والشعور بعدم الخوف من مواجهتها وتأنيبي لتقصيري .
سبحت وسط بحر الدخان والروائح وتمكنت من الوصول الى البيت قبل ساعة من الافطار الكوني العظيم .القيت كل ما كان بيدي على الارض المباركة ، وقلت لزوجتي اريد ان انام حتى موعد الافصار فلا تزعجيني .
دخلت غرفة نومي ، وخلعت ملابسي واستلقيت على السرير، فلم استطع النوم كان صوت التلفزيون مرتفع ، وصراخ الاولادن،بعد ان قامت ابنتي الصغيرة باغاضة اخوتها بساندويش من الجبنة كانت تلوح به كونها غير صائمة والحمد لله، فتحول اخوتها الكبار الى فئران يحاولون الحصول على الجبنة مما ادى الى معركة كانت نتيجتها تحطم معظم اثاث البيت العتيق الذي باركنا حوله ووقعنا تحت نير الديون ورحمة البنوك والتي هي اوسع من رحمة ربي .
وسمعت صوت زوجتي تصرخ في غمار المعركة على الجبن الفرنسي الكافر .
فوقفت على قدمي وانا ألعن المرّيخ ورمضان ، وساعة الزفت التي أعلن فيها الصيام .
ولكن الشيطان اخبرني بأن على التريث قبل ارتكاب جريمة بحق زوجتي وأولادي ، الذين حرموني من نعمة النوم والراحة .
وفهمت بأن ابني محمود قد تسلل الى المطبخ رغم الاجراءات الامنية المشددة التي تتبعها زوجتي ،وقام بفتح الخزانة وخطف الجوز الذي تستخدمه زوجتي في حشو القطايف فعدت واستلقيت بالسرير لان الشرف الرفيع سلم من الاذى .
وبعد ربع ساعة ، جاءت زوجتي ولم استطع التعرف عليها كان وجهها اسود من الدخان وشعرها متلبد ، وقد علق به زيت القلي وقشر البصل والثوم والخيار ، اما ثوبها الازرق فقد حمل كل بقايا الاطعمة المعروفة وغير المعروفة في العالم ، وتفوح منها كل الروائح ورغم ذلك كانت مبتسمة لتبدو سعيدة ، مما سبب لي القهر والأحباط ، وكنت افكر ان اهاجمها يلساني بأقسى العبارات والتأنيب على مافعلت بنفسها على هذا المنظر المقزز.
ولكنها قالت : أرتدي ملابسك حبيبي.. فقد حضر الاقارب وعليك استقبالهم حتى انتهي من عملي بالمطبخ .
نهضت بتثاقل ووضعت على جسدي العاري ستارة ، أعني جلباب على شكل كيس دون ان ارتدي ملابسي الداخلية مستمتعا بحرية السلف الصالح الذي لم يعرف مثل هذه البدع الغربية الكافرة .
خرجت مبتسما مرحبا بالضيوف علنا وفي سري كنت ألعن المرّيخ على وجودهم، ومن ضمنهم عديلي زوج أخت زوجتي وهو امام جامع، ولا أعرف كيف يترك الصلاة، ولكنه لا يهتم الا بكرشه ، وعند اي عزومة ينسى الجامع وربه !!وبعد ان يشبع ( ان شبع ) وهذا يحدث نادرا ، يبدأ بالقاء المواعظ السمجة وكلها تدور حول الجنس والوطء .
جلسنا جميعنا حول مائدة السفره الكبيره والتي تحتل معظم مساحة الغرفة ،وخيم الصمت المطبق وكل العيون والاذان مشدودة الى التلفزيون بانتظار سماع صفارة الاذان لتبدأ مباراة الألتهام، وكل واحد منا تسلح مسبقا بآله حاده كالسكين او شوكه ، ويمسك بها بقوه متذكرا زمن النفاق والزعيم الحاقد واغنية مطرب الاجيال الهائجة والرائجة لعبد الحليم حافظ ، (والله زمان يا سلاحي ) ..!!
كانت زوجتي تشرف على كتيبة مجوقلة من النساء والفتيات والفتيان تقوم بمهمة استراتيجية خاصة جدا بعيدا عن اعين العدو ، وهي نقل كمية كبيرة جدا من الاطباق والصحون الكبيرة جدا جدا تحوي على كميات هائلة من الاسماك واللحوم والدواجن والمقبلات والسلطات والسوب تكفي لعشاء شعب الصين العظيم.
فيما اولادي يدحرجون عدة براميل نفط تحتوي على تمر هندي ومشروب قمر الدين المحرّم دوليا ، واللبن كامل الدسم جعله ابليس سم قاتلا ..!!
تكللت العملية بالنجاح قبل الاذان المنتظر ، وخيم جو من التنصت والترقب ، صاحبه هدوء تام على كل الجبهات انتظارا لساعة الصفر ..!!
وما ان سمع اول حرف من الاذان حتى بدأالهجوم في معركة استخدمت بها كل الاسلحة بما فيها المحرمة عائليا من اجل الحصول على اكبر كمية من الطعام ، كالضرب تحت الحزام ، والاختطاف ، والركل ، وشد الشعر وتمزيق الملابس . ولم يطل أمد المعركة اكثر من نصف ساعه ، نفذت فيها كل الاطعمة بما فيها الاحتياطية، وفرغت كل براميل الخام الثقيل والخفيف .
نظرة سريعة الى المائدة والاطباق واذا بها نظيفه ونظيفه جدا كأنها خرجت للتو من غسالة الصحون ، وبحثت بين ثنايا المائدة عن الهياكل العظمية للسمك والدجاج والكائنات الاخرى ، فلم اجد لها اثر يذكر ، ولم ينهض احد للتخلص منها ، انه جوع الكلاب وما ادراك يا زياد الرحباني ما الجوع هو ليس كافر بل اكثر .
انتقلنا بعد نسف الوليمة المقدسة ، للجلوس على أرائك مريحه ، وقامت زوجتي وخمس نساء بنقل جبل كامل من القطايف بأرتفاع الف متر عن سطح البحر وتلال من الحلويات المختلفة . ونقل اولادي برميل نفط خام من الشاي المحلى بربع طن من السكر الكوبي الاحمر نسبة الى الحزب الأحمر المتآمر على الأمتين العربية والأسلامية .
فلم تعد لي رغبة بالاكل ، فاشعلت سيجارة ، وخرجت الى الشرفة لأدخنها ، وبعدما انتهيت منها ، عدت الى الصالة، فوجئت بالجبل العظيم من الطيبات وقد اصبح ذكرى بعد عين ،وكذلك تلال الحلويات المهولة ، ولم تبق الا قطعة قطايف واحدة ممسكة بيد عديلي الشيخ وهو مشغول الفكر عن الدنيا وما فيه .
قلت له يا شيخ :بماذا تفكر ، وانت غارق فيه ؟
نظر الي بكل ثقة ، وقال بصوت جهور : الحقيقة ، اني أفكر بمرحلة ما بعد الافطار ، ياعديلي العزيز ..!!
فعرفت انهم باقين على قلبي حتى السحور ..
فاخذتني خيالاتي ، وهي قريبة جدا من الواقع ، وهي وقوف سماحة شيخنا بعد السحور الالهي العظيم على طاولة السفرة بعمامته التي اصبحت سوداء ، بسبب تراكم بقايا الطعام واثار اصابعه ،وبلحيته المبعثرة والملوثة بكل الملوثات البيئية الطبيعية والصناعية ، وجلبابه الذي يمكن ان ترى الخريطة الكونية عليها وبمعالم بارزة .. رمضـــــــــــــان كريــــــــــــــــــم ..
مسك الختام
مرة شيخ تقاضى راتبه الشهري فوضعه في جيب قميصه الذي على صدره و ذهب يخطب خطبة الجمعة التي كانت حول الإيمان.
حيث قال: الإيمان هنا في القلب، و ضرب بيده إلى صدره، فإذا به يتحسس جيب قميصه و لا يجد راتبه.
فقال : لا لا، الإيمان هنا في المؤخرة ، فضرب بيده على مؤخرته حتى يتفقد جيب سرواله الخلفي، فلم يجد راتبه ايضا.
فقال : اغلقوا كل الابواب، ما زال الإيمان في مكان ما هنا في المسجد ..!!