قررت مع أصدقائي أن نقوم بجولة ثقافية, نريد أن نعيش الحلم ولو لساعات, بعيدا عن خيبات الواقع المتعددة, كان الطقس يوم السبت جميلا, مما شجعنا على الخروج, فقررنا الذهاب لشارع السعدون, والالتقاء بزملاء المهنة, وحضور معرض رسم لفنان ناشئ, ومن ثم المسير نحو الكرادة, حيث أهم فقرة في برنامج الرحلة وهي المسابقة الشعرية, كنت محتاجا مثل أصدقائي للخروج من الجو السياسي المحبط, وضغوطات الحياة الاقتصادية, بسبب سلوك الساسة السلبي من قضايا الوطن والشعب, والحقيقة ارتحت كثيرا بالتلاقي بالكتاب والشعراء والرسامين, حيث نقاشات حول الفن واشكالياته والشعر وقوافيه وأحلام الكتاب.
● هموم كاتب حالم
وصلنا مبكرين لكافية الشمعدان, قبل ساعة ونيف فجلسنا نتحدث عن التفاؤل, ودوره في تغيير الإنسان, فقلت أني كنت دوما اتفائل مع الصباحات البغدادية, التي لا اعتقد أن لها مثيل في الكون, لكن دوما أعود بسرعة للأرض متذكرا كلمات نوفاليس ( حين نحلم أننا نحلم, فهذه بداية اليقظة), فأعود للواقع, وما يحمل من منغصات العيش وكبت للأحلام, تحدثنا طويلا عن أحلامنا بطباعة نتاجنا المعرفي, ثم تملكتنا غصة, فطباعة كتاب يعتبر من الأحلام البعيدة.
واقع الثقافة في العراق مزري في هذه الفترة خصوصا, حيث تدخل العلاقات والمحسوبية في عملية الطباعة المدعومة, ولا دخل لأهمية الكتاب أو رقي المنتج الثقافي, فأن كنت ابن مسؤول كبير, أو قريب احد السياسيين الجهابذ, أو تكون احد المتملقين النفعيين, فان كل نتاجك مهما كان مخجلا او ضحلا فانه سيطبع ويوزع, بل ستكرم بدرع الإبداع كل شهر, فمن يكون مرتبط بالسلطة تفتح له الأبواب, هذا واقع الحال البائس.
بعد زوال نظام الطاغية حلمنا كثيرا, وبعد 14 سنة من حكم اللصوص والشواذ, تأكدنا أن الأحلام مجرد أوهام, ننتظرها أن تتحقق متناسين أنها مجرد وهم.
● حديث الصحافة الحزين
قبل وصول الشعراء لقاعة الشمعدان, حيث كان مقرر مسابقة الشعر التي يقيمها اتحاد المثقف العراقي, التقينا مع رئيس تحرير صحيفة يومية, عجوز تخطى السبعون, فتحدثنا عن الصحافة وهمومها, فتحدث بألم وحرقة كبيرة, عن الأزمة الاقتصادية الخانقة, والتي تسببت بغلق عشرات الصحف, والباقي قام بتقليص نفقاته, عبر تقليل عدد الصفحات وتسريح نصف الكوادر أو أكثر, وصحف تعتمد على معونات من هنا وهناك كي تستمر بالعيش.
الصحافة تموت في العراق, فالدعم الحكومي غائب, ودعم الساسة والأثرياء يحصل حسب المزاج, واغلب الساسة يفتح خزائنه للإعلاميين, فقط في وقت الانتخابات, لغرض تسخير الأقلام والصحف للترويج لحزبه أو لشخصه, مما جعل الصحافة تموت, فمع أننا نتمتع بجو من حرية الكتابة مما تحسدنا عليه الشعوب الأخرى, لكن ما فائدة الحرية أذا فقدت الوسيلة التي تسهل لنا التعبير عن الرأي.
مصيبة أخرى تجري في عالم الصحافة الحالي وهو سطوت أناس غير صحفيين, مجرد انتهازيين ودواعر وبعض العاهرات, هذه الفئة هي من تقود الكثير من المنابر الإعلامية في العراق, مما جعل الصحافة تنحط أو تموت.
لو كان القائمين على الصحف بعقليات اقتصادية, وتتعامل مع الصحيفة على أساس أنها مشروع اقتصادي يحقق إيرادات, ولو وضعت الحكومة شروط قبل الترخيص مثل حساب جاري يغطي نفقات سنة, وحسابات دورية كأي مشروع, لامكن لها الديمومة, أما أن تعتمد كليا على المساعدات والمعونات, كي تستمر بالظهور اليومي, فهذا الأمر خاطئ لا يجب أن يستمر.
نعم حديث الصحافة الحالي حديث محزن ويثير جبل من الألم, ولن تحل اشكالياته قريبا.
● قوافي الشمعدان
عند الخامسة والنصف عصرا اكتمل الحضور في كافية الشمعدان, وبدأ الشعراء في ألقاء قصائدهم, احدهم كان جاهلا بقواعد الرفع والنصب, مما جعل السخرية تطوله من الجمهور المتذوق, وأخر صعد ليقرا قصيدة فإذا به يقرا لنا مقال اقتصادي, وهو يظنه قصيدة نثرية, مما جعل الحضور يستاء منه, لكن لكبر سنه جعل الحضور تسكت عن تقريعه, الى أن صعد صديقي الشاعر حيدر حسين سويري, ليلقي قصيدته التي طالما انشدها لنا في مجالسنا, عن الحب والحظ العاثر, فكانت قصيدة ( عندما يأتي المساء), التي سحر بها الحضور, وبدد جليد الزمن, وأزال صورة الركاكة التي أوجدها من سبقه, وانطلق يرسم لنا بريشة ساحر, لوحة عشق بلون الانتماء الأبدي لحروف الوعد, هو عالم من الرومانسية الشفاف.
واكتملت المسابقة ووزعت الجوائز بحسب رغبة القائمين, متعاهدا مع أصدقائي على تكرار الرحلة قريبا.
● ختام الرحلة
انطلقنا نحو شارع الكرادة داخل عائدين, وقررنا قبل الرحيل أن نبحث عن محل لبيع الفلافل, نسكت به صوت شكوى بطوننا, ونتذوق أطيب الوجبات البغدادية, بحضور الشاي الساخن ليبدد برودة الجو, ويزيد من صخب الأصحاب.