قلب الأخوان للكاتب ثروت الخرباوي، يعتبر من الكتب المهمة، نشره الكاتب قبل كتابه ذائع الصيت “سر المعبد” إلا أنه لم يلق نفس الشهرة، رغم أهميته حيث يركز فيه علي حدث مهم في تاريخ مصر وهو غزو جماعة الإخوان المسلمين لنقابة المحامين والتي كانت قلعة الليبرالية واليسارية في مصر، ومن خلال عرض الكاتب يمكننا أن نقيس ونفهم كيف استطاعت هذه الجماعة التي كانت محظورة علي غزو المجتمع المصري حتى وصلت لكرسي الحكم، وكيف تحولت الجماعة من جماعة دعوية إلى كيان سياسي أو دولة داخل دولة. عنوان الكتاب يجعلك من البداية تحاول أن تعرف ماذا يقصد الكاتب بالضبط من اختياره هذا.
في بداية الكتاب تتصور أن الخرباوي سيأخذك في رحلة تعرفك على ضمير الإخوان ومدخلهم للحياة، مع توالي الصفحات ستدرك أن قلب الإخوان هو التنظيم الخاص الذي ابتدعوه ليقبض بشدة على الأمور ويحركها كيف شاء، وفي فصول متقدمة ستتأكد أن هذا القلب يحمل سوادا لمن يخالف الأوامر، لكنك قبل نهاية الكتاب ستضع يدك على السر عندما يفاجئك الكاتب أن قلب الأخوان هو منطقة شرق القاهرة، حيث تسكن القيادات التي تسيطر تماما على أمر الجماعة “هذا القلب الذي لو عرفته لأدركت ما يحدث في الأطراف من تجاوزات تؤكد لك أن رأس السمكة قد فسد.
يصحبنا الكاتب بأسلوب روائي متميز لنتعرف على الكثير من أسرار الجماعة، نظامها، تفكيرها، طريقة قيادتها، قهرها لأعضائه من خلال صفحات هذا الكتاب سنعرف شيئا مهما وهو كيف تستقطب الجماعة الأفراد فيقعوا أسرى سحرها الظاهري، ثم كيف تطوقهم حتى تذوب كياناتهم تماما في كيانها، يأتي هذا علي خطوات، ففي البداية تؤثر على الفرد بحيث يشعر أنها جماعة أبرياء يفتري عليهم النظام الحاكم لمجرد أنهم قالوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، ثم عندما يتجه لدراسة فكرهم والتعرف عليه- كما فعل الكاتب- يتلقفه علماؤها ليتأكد أن الجماعة فقها وأنها لا تتكلم من فراغ،ثم تأتي الخطوة الثالثة وهي بعض المواقف التي يحاولون إتخاذها واستثمارها لتستقر في عقول الناس على أنها جماعة تدافع عن الحق بشجاعة، وهو ما وجده الكاتب في الحوار الشهير بين د. عبد المنعم أبو الفتوح و الرئيس السادات، بعد ذلك يصبح الإنسان مؤهلا للدخول، ويروي الكاتب كيف انبهر بهم وصار واحدا منهم لتأتي الصدمة الأولى، فهذا هو المستشار مأمون الهضيبي في مناظرة عامة بمعرض الكتاب عام 1992 يدافع عن الاغتيالات التي قامت بها الجماعة- رغم إنه رجل قانون- ويقول أن قتل النقراشي عبادة، وقتل الخازندار تقربا لله! ومع انخراط ثروت الخرباوي في أتون الجماعة تتوالى الصدمات فهو رجل لم يخلع عقله على بابهم وهذه هي المشكلة “ثق في الجماعة دون أن تسأل”، “ينبغي أن يكون الأخ بين يدي مرشده كالميت بين يدي مغسله”،” لا فضل للأخ على الجماعة ولكن الفضل للجماعة على الأخ”، “التنظيم مقدم على الفكرة”، كلها عبارات كانت تتلى عليه تؤكدها الأحداث، ويراها تطبق بحذافيرها، فيدرك أن خلافات الجماعة مع منافسيها لم تكن على الدعوة ولا لخدمة الدين، لكنها على الرئاسة والسلطة، وبالرغم من كل ما يصادفه فهو يسير في فلكهم، لكن مع الوقت يبدأ عقله في تفنيد مواقفهم ورفضها بينه وبين نفسه، إلا أن شيئا ما بداخله يجعله يستمر وينصاع لهم
ويصحبنا الكاتب لنتعرف أكثر على تنظيم الجماعة، فالأسرة هي بناء إخواني قاعدي تتكون من 15 أو 16 فردا يرأسهم شخص (النقيب)، وكل مجموعة أسر تشكل شعبة، وكل مجموعة شعب تشكل منطقة، وكل مجموعة مناطق تشكل محافظة، أما الكتيبة فهي لقاء شهري للشعبة يستمر للفجر ويشمل درسا دينيا وصلاة وقيام.
وفي تطرقه لفكر الجماعة يؤكد الكاتب على فلسفتها الخاصة، فهي عندما تشعر بأنها مهددة بالزوال تدافع عن نفسها عبر عدة وسائل حيث تسعى أولا إلي وأد أي حركات تجديدية داخلية، ثم تركن للانكماش والتقوقع بحيث تبقى بمعزل عن البناء الحضاري، وقد يفسر لنا هذا ما يحدث الآن من ممارسات عجيبة غير مسئولة للجماعة تؤكد أنها بالفعل بعيدة كل البعد عن وطن تحيا فيه.
ويقول الخرباوي أن الجماعة في سبيل البقاء لا تتورع عن التجسس على أعضائها بل وتعتبر هذا العمل الذي نهى عنه الدين عملا مجيدا، هي أيضا تعتمد على ما تسميه التنظيم الخاص والذي بفضله تحولت من جماعة دعوية إلى موسسة أمنية.
ويتحدث الكاتب عن ثلاث نقاط مفصلية في تاريخ الجماعة تبين كيف تحولت من دعوية إلي سياسية أمنية، فيقول أن دخول حسن البنا إلي معترك السياسة بترشحه للبرلمان كان هو البداية للعمل السياسي والتمسك به، ثم تكوين النظام الخاص والذي يعمل كجهاز أمني حولها لجهة أمنية، ثم تأثير سيد قطب والذي عمق في فكر الجماعة أن كل من انتمى إليها هو مسلم، أما الباقون فهم يتبعون المجتمع الجاهلي، ويفسر الخرباوي سبب هذا الإ اتجاه المتطرف لسيد قطب فيقول أن قطب تأثر بأبي الأعلى المودودي وعنه أخذ فكرة الحاكمية، فاعتبر أن المجتمع المصري يقوم على أسس جاهلية وقام بتقسيمه إلي فريقين، مسلم وجاهلي، وأوجب على المجتمع المسلم أن يتقوقع علي نفسه ويعتزل الجاهليين ، لذلك قامت فكرة سيد قطب على التجييش والتجنيد عن طريق الدعوة العلنية لتكوين تنظيم سري.
ثم يسرد الكاتب معلومات مهمة جدا يكشف من خلالها كيف بدأ الإحياء الثاني للجماعة على يد الشيخ التلمساني الذي دفع بدماء شبابية جديدة للجماعة كان من بينها د. عبد المنعم أبو الفتوح، وأبو العلا ماضي، وعصام العريان، ومختار نوح، وكيف أن التنظيم الخاص استقطبوا بعضهم ليصبحوا من فريق عسكرة التنظيم.
وفي أسلوب شيق ندخل مع الكاتب إلي نقابة المحامين، وكيف تم غزوها، فيعرض لدور مختار نوح في استقطاب شباب المحامين من المحافظات . ولكن للعجب أن من كانوا يعوقون نوحا ليسوا الليبراليين ولا العلمانيين، بل أبناء جلدته المرجعية، حيث كانوا يرون الخطر في قوته التي ستسحب البساط من تحت أقدامهم كأعضاء بارزين في الجماعة.
لكن نوح استطاع رغم ذلك أن يؤثر علي عدد كبير من المحامين حتى انضموا للجماعة، ويفوز بمقعد الشباب في النقابة ، ليبدأ تاريخ جماعة الإخوان المسلمين في قلعة الليبرالية واليسارية في مصر وقتها، ومن خلال فصول الكتاب سنتابع بشغف الخلاف الشديد الذي نشب بين جماعة الإخوان بالنقابة وبين رابطة المحامين الإسلاميين التي جاء أعضاؤها من الجهاد الإسلامي والجماعة الإسلامية، وأن الصراع بينهم لم يكن لإعلاء كلمة الله بل من أجل السلطة والسيطرة.
وتتوالي الأحداث في النقابة لتصل إلى سحب الثقة من مجلسها ونقيبها ثم فرض الحراسة وإلقاء القبض على مختار نوح، والذي يكشف لنا الكاتب أنه جاء نتيجة خيانة ارتكبها في حقه أحد أفراد الجماعة البارزين ليقصيه عن طريق الشهرة والنجومية. هذه الخيانة كانت نقطة تحول لدي الخرباوي، فقد آلمته و هزته من داخله وجعلته يبدأ بإعادة حساباته في انتمائه لجماعة “لا تتقي الله في أعضائها وتعلي مكاسب رخيصة على الأخوة والدين”. “الجماعة تفقد رشدها حين تهمل الشورى والمساواة وسوف تزول إن هي خالفت السنن الكونية، وهي جماعة وليست كيانا مقدسا، مهما رفعت الشعارات الدينية” هكذا كان رأي أحد قياداتها من الرعيل الأول عندما إلتقاه الخرباوي واعترف له بما يعتمل في صدره من ضيق.
يكشف لنا المؤلف كيف صار سامح عاشور نقيبا، وما هو دور الجماعة في هذا، وكيف خسر رجائي عطية السباق علي كرسي النقيب، فقد تم عقد اتفاق بين الجماعة وبين عطية ليساندوه نقيبا أملا في إبعاد عاشور الذي جمعه بهم تاريخ طويل من العداء، لكن يأتي دور عصام سلطان والذي كان أحد قيادات الإخوان لكنه انقلب عليهم وقام بتوطيد دعائم حزب الوسط فنال نقمة الإخوان.
وتدفع الجماعة بكل قوتها لمساندة رجائي عطية الذي تجد فيه فكرا معتدلا ومهارة قانونية وحلا لإبعاد سامح عاشور، بينما يتفق الخرباوي مع عصام سلطان علي مساندة سامح عاشور، لتعلم الجماعة بما يفعله الخرباوي، فتستشيط غضبا، وتقرر محاكمته!!! وتسفر المحاكمة عن قرار ليس له سابقة في تاريخ الجماعة، حيث حددوا إقامته لمدة 6 أيام لا يخرج من بيته حتى نهاية الانتخابات.
وعندما يشكو الخرباوي لأحد أعضاء الجماعة المقربين من خيرت الشاطر يرد عليه بعبارة تصدمه، وتجعلنا نعرف أكثر كيف تفكر هذه الجماعة ، فيقول له:”كلنا يعلم أن هناك من الإخوان من ارتكب من الموبقات ما ينجس البحر المتوسط، ومع ذلك لم يصدر ضده مثل هذا القرار، ولكن لا علينا إلا السمع والطاعة” ويتفكر الخرباوي فيما يحدث معه، فيتذكر عمر التلاوي الذي تم التحقيق معه لأنه تجرأ وخرج على أوامر القيادات لأنه لم يلتزم بالتصويت لمصطفى مشهور في انتخابات شورى الإخوان، يتذكر أيضا فوزي الجزار الذي قامت زوجته بانتقاد تصريح سياسي للمرشد ، وكان ذلك في جلسة مع الأخوات، فطالبته الجماعة بتطليق زوجته، وعندما رفض فصلته وحاربته في رزقه ليصاب بالهم والكمد الذي أدى به لمرض السرطان ثم الموت.
وتتم الانتخابات وينجح سامح عاشور، ولا شك ان الدعاية التي قام بها الخرباوي قبل الحكم عليه بتحديد الإقامة كانت من أهم أسباب فوزه، مما أثار جنون الجماعة، الذين اتهموه بأنه حضر الانتخابات وشارك في الدعاية ولم يمتثل، ورغم تنفيذه لحكم تحديد الإقامة إلا أنه صار مطلوبا للمحاكمة ، فقد قام احد أعضاء الجماعة البارزين بالشكوى ضده وجاء بشهود من المحامين الإخوان الذين أقسموا ـ كذبا- بأنهم رأوه يوم الانتخابات بالنقابة يقوم بالدعاية لعاشور.
وتبدأ المحاكمة وهي من أجمل فصول الكتاب حيث كتبها الخرباوي بحرفية متينة وأجاد في الوصف والتصوير، ونجد هيئة المحكمة تتكون من ثلاثة، اثنين منهما لم يكملا تعليمهما، والثالث مهندسا! وقد يفسر لنا هذا الوضع لماذا لا يحترم اعضاء الجماعة القضاء ولا يحترمون أحكامه، فالقضاء بالنسبة لهم لا يعتبر دراسة وممارسة وقواعد وأصول،، لكن أي إنسان ممكن أن يصبح قاضيا.
ويخضع الكاتب للمحاكمة رغم رفضه، ويشرد عما تقوله هيئة المحكمة مستغرقا في حديثه مع الذات، في جمل هي أروع ما قدم الكتاب، هذا الحديث الذي كان بمثابة إفاقة لإنسان تم تغييبه بإرادته، المحكمة منعقدة، لا يسمعهم بل يصغي لصوت بداخله، يصور لنا عودة إنسان من الغيبوبة، ويوضح إشكالية مهمة جدا ، وهي إشكالية تذويب الذات في الكل،”أليس فيهم رجل رشيد؟ أم أننا شجعناهم عندما وضعنا بين أيديهم تلك السلطة المطلقة التي كبلوا بها شرايين قلوبنا” هكذا تفيق منه ذاته بين حروف الكلمات، ثم يحاول أن يعرف كيف رضخ لهم، ويعرفنا من خلال هذه الكلمات على نفسية الإنسان الذي يجد نفسه وقد أخذته دوامة ولاء لكيان يبتلعه: “وكأن خضوع الإنسان للقيود والأغلال التي ألفها زمنا طويلا يطمس فيه نزعة الحرية ويجعله سلس القيادة، وهكذا يستطيع الطغاة قيادة شعوبهم”، ويجذب انتباهه منظر عصفور في القفص يراه في الخارج خلال النافذة فيظل يقارن بين العصفور وبين حاله: “هذه العصافير لو فتح لها القفص فلن تطير، لأنها في سجنها لم تتعلم الطيران، وإذا طارت هتتهشم وتقع، هل لم أستطع الخروج من قفص الإخوان خوفا من الحرية فبقيت في القفص الذهبي الذي طرزوه بالإسلام فخلبوا لبي؟ وإذ يدخل الواحد منا القفص يصبح قطعة منه”، ثم يشرح كيف يتم التأثير على الأخ وربطه بحبال لا يملك منها فكاكا فيقول محادثا نفسه:”كل من حولنا إخوان، زواجنا، عملنا، جيراننا، انفصلنا عن الواقع وكأننا في جيتو، فإذا خرج العصفور من القفص سيقاطعه الجميع وسيسير في الطرقات بلا غطاء”، لكنه في هذه اللحظة يفيق ويتذكر: “مالي وكل هذا؟ لم أتزوج منهم، ولم أجاورهم، وليس لدي قضايا من عندهم إلا ما آخذه تطوعا”، الآن أدرك أن ما يربطه بهم ليس بهذه القوة، لذلك وعندما تم النطق بالحكم بفصله من الجماعة لم يهتم كثيرا، فهو بالفعل منفصل عنهم ولم يكن يدرك ذلك، وحتى بعد إجراء محاكمة جديدة تقرر على أساسها إيقافه شهرا واحدا ليعود بعدها، لم يفرح، بل قدم استقالته، ليرحل عنهم بإرادته كما انضم إليهم بإرادته، فخلاصة الحكمة: لا تذب في كيان مهما كان، واحتفظ دائما بإرادتك حرة.
المصدر ايلاف