قصّةُ عِشقٍ بابلي

عضيد جواد الخميسي795px-Brueghel-tower-of-babel

قصة حب بابلية رواها الشاعر الروماني اوفيديوس (43 ق.م ــــ 18م) واقتبسها الاغريق وعدّوها بين أساطيرهم عن بابل، كما اقتبسها شكسبير بمسرحية ,, روميو وجوليت ,, . والقصة تدور حول الحب العذري الذي لا يزال محرّماً في أوساط واسعة من الشرق وهي من ميتولوجيا الاصول ، عن كيفية وجود التوت الشامي او الرومي الاحمر القاني بعد ان كان ابيض كالثلج . وقد تبدل لونه بشكل غريب . انها مأساة . ولقد كان موت عاشقين شابين السبب في ذلك التغيير للالوان .
في بابل العظيمة ، مدينة الملكة سميراميس ( شمورامات ) عاش شاب اسمه( بيرم) ، وهو من اكثر فتيان الشرق وسامة، وصبية اسمها (تسبين) من اجمل جميلات فتياته . سكنا في بيتين متجاورين يفصل ما بينهما جدار مشترك .
ترعرعا جنباً الى جنب ومع نموهما كان ينمو في قلبيهما حب عاصف اقوى من أي عائق . كانا يتوقان الى الزواج لكن اهليهما يمتنعان من مباركة هذا الزواج او قبوله . وكلما حاولا اخماد حبهما تأججت ناره . فالحب دائماً يجد سبيله ولم يعد بالامكان فصلهما الى الأبد .

في الجدار الفاصل، اكتشف العاشقان شقاً لم يلحظه أحد من قبل، وكأن العشاق لا يفوتهم شىء . تبادلا همسات الحب عبر الشق. .( تسبين) من جانب و(بيرم) من الجهة الاخرى ، حتى أصبح ذلك الفاصل المشؤوم وسيلتهما الوحيدة للاتصال . انه يسمح للكلمات ان تخرقه ولا يسمح للقبلة ان تمر فيه . وفي الليل قبل ان يأوي كل الى فراشه كان يطبع قبلة على ذلك الجدار البارد ويمر بخياله عبر الجدار . وفي كل صباح عندما يطل الفجر ليمحو النجوم في قبة السماء . وتذيب أشعة الشمس الصقيع العالق بالاعشاب . كانا يسرعان الخطى الى الشق بعد ليل ملؤه السهاد ليتبادلا همساتهما من جديد ويندبان سوء طالعهما وقسوة القدر .
الى أن أتى يوم قرر العصفور الحبيس ان يفر من قفصه . لقد اتفقا ذات ليلة على التسلل والهرب خارج المدينة الى البرية حيث يجدان الحرية من ظلم وحرمان الاهل والمجتمع، وتواعدا على اللقاء عند قبر“ نينوس“ مؤسس نينوى الاسطوري . وكانت تظلل القبر شجرة توت وارفة الظلال تبرز من بين اوراقها الخضر ثمار بيضاء كالثلج ويتدفق من تحتها “ فوار “ ماء عذب . لقد تلهفا لتنفيذ الخطة وانتظرا ذلك النهار لينقضي وكأنه سنة كاملة .

انحدر “ شمش “ نحو الغرب ليدخل في أحشاء أمه الأرض . ويختفي حيث تلتصق الأرض بالسماء ثم أرخى الليل سدوله . ولكن البدر “ سين “ قد صعد في الجلد ليرسل نوراً خافتا يخفف حلكة الليل . وكان ذلك مواتياَ ـــ لتسبين ـــ كي تتلمس طريق الهرب الى قبر نينوس وشجرة التوت حيث يكون اللقاء . لم تجد بيرم في انتظارها .. لقد تأخر .. قلقت .. شدّ الحب من عزيمتها فتشجعت، وانتظرت وحدها في سكون الليل. . وفجأة لمحت من بعيد لبوة تخرج من الغابة تهرول نحو النبع لتروي ظمأها بعد أن افترست وملأ الدم شدقيها .
هربت تسبين قبل ان تراها اللبوة .. ركضت لكن النسيم أسقط منديلها ولم تأبه لالتقاطه .. مرت اللبوة بالمنديل فمزقته بفمها المدمى ثم شربت وقفلت عائدة الى عرينها في الغاب .

حضر بيرم ولم يجد سوى المنديل الملطخ بالدم، وآثار خطى اللبوة على الارض، فتطلع حوله واذا هي تدخل الغابة . كان المشهد واضحاً وفظيعاً وخلاصته كانت واضحة بالنسبة له. . فهو المسؤول عن موت حبيبته وهو الذي تأخر وتركها وحدها تنتظر في هذا المكان الموحش وليس بقربها سوى بقايا جثة في قبر. . انها غضة الشباب لكنها لا تقوى على الدفاع عن نفسها وصار شعوره بالذنب قاتلاً ..
صاح “ انا من قتلك “ لملم المنديل وقبله ثم قبله .. وهرول نحو شجرة التوت وخاطبها قائلاً “ انك الآن ستشربين دمي “. . واستل سيفه وغرزه بين أضلاعه ففار دمه بعيداً ولطخ ثمار التوت الابيض فاصطبغت بالاحمر القاني ، وهو يتخبط بدمه . ..
ركضت اليه وطوقته بذراعيها. . لقد كان جلده بارداً مبللاً بالعرق.. قبّلت شفتيه الباردتين ورجته ان ينظر اليها مرة واحدة فقط .
قالت “ انا تسبين كلمني أتوسل اليك “.. وعند سماع اسمها فتح عينيه الثقيلتين.. ورمقها بنظرة الوداع الأخير.. ولم تكن نظرة طويلة ، لأن الموت قد اطفأ نور عينيه. . كان سيفه بجانبه ، ومنديلها الممزق ما يزال عالقاً في قبضته.. ففهمت بدقة دون كلام “ أنت قتلت نفسك بسبب حبك لي وما كان شىء ليفصل بيننا سوى الموت ، وأما الآن فحتى الموت لن يفرق بيننا “ … وأغمدت السيف في أحشائها وهو لا يزال مبللاً بدم حبيبها المتجمد …

رأت الآلهة المأساة وأشفقت على نهايتها المفجعة ، كذلك ندم الأهل والناس حيث لا ينفع الندم ، وبقيت ثمار التوت الحمراء تذكاراً أبدياً لحبهما العاصف تعود كل عام . وفي قارورة واحدة وضع رمادهما ، وهكذا لم يفرقهما شىء حتى ولا الموت ….،،

About عضيد جواد الخميسي

كاتب عراقي
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.