كان في قريتنا أيام الطفولة أشخاص يسمونهم «شيوعيين»، ولم أعرف وقتها ماذا يقصدون بالشيوعيين، لكن الحديث عنهم بالسوء في غالب الأحيان بين أهالي القرية جعل الكثير من الأميين من أمثالي آنذاك يخافون منهم، ويبتعدون عنهم، ويحذرون من خطرهم. والغريب حينها أن النظام السوري كان متحالفاً حتى العظم مع الاتحاد السوفياتي الشيوعي، مع ذلك كان يلاحق الشيوعيين، ويصورهم للعامة على أنهم خطرون جداً على المجتمع. ومن الأسماء التي كانت تبعث فينا الخوف والقشعريرة اسما كارل ماركس ولينين، مع أنني لم أعرف عنهما شيئاً في ذلك الوقت، لكنني كنت أظن دائماً أنهما شخصان سيئان لا تحاول أن تقرأ عنهما أو تتعرف على كتاباتهما.
ذات يوم منحوس خرجت من باب بيتنا المتهاوي، فوجدت أمامه مجموعة من الكتب القديمة، لا أدري من هو الشرير الذي وضعها أمام البيت بقصد أو بغير قصد. بدأت بتقليب الكتب لأقرأ عناوينها سريعاً، فإذ بها كلها تحمل كلمات شيوعي وشيوعية وماركس وماركسية ولينين واللينينية وما شابهها من مفردات يسارية مرعبة. لم أفكر كثيراً ماذا أفعل بتلك الكتب، فأدخلتها إلى البيت بسرعة البرق وأنا أرتعد خوفاً من أن يكون أحد قد شاهدها أمام بيتنا، أو شاهدني وأنا أطلع عليها. ماذا أفعل بها يا ترى؟ وجدتها، وجدتها، حملتها فوراً إلى الحمام الخارجي في بيتنا (كان على الهواء مباشرة) وأشعلت فيها النيران ودقات قلبي أكثر من مائة وخمسين دقة بالدقيقة وربما أكثر. أحرقت الكتب ورقة ورقة، وكنت أرى الصفحات التي عليها لحيتا ماركس ولينين تفرقعان بين ألسنة النار. لقد كنت في أيام الشباب الأولى مرعوباً من مجرد القراءة عن شيء يسمونه سياسة، خاصة إذا كانت ذات صبغة شيوعية أو يسارية عامة.
ومع أننا كنا مجندين قسراً في حزب البعث منذ المدرسة الإعدادية، إلا أننا لم نفهم بالسياسة شيئاً، وكانت كلمة سياسة تسبب لنا حساسية مخيفة. وظللت بعيداً عن السياسة، لأنني لا أفهم شيئاً عنها. وكنت أيام الجامعة أشعر بخوف شديد عندما كان بعض الطلاب الذين أسكن معهم في المدينة الجامعية يرددون اسم تشي غيفارا أو لينين أو ماركس. كان هؤلاء دائماً يمجدون غيفارا، ويستشهدون بأقوال لينين، لكن بعيداً طبعاً عن أعين المخابرات. لقد كان هؤلاء ثوريين حتى النخاع وقتها، لكن عندما اندلعت الثورة السورية اختفوا كالجرذان، ولم يسمع لهم أحد صوتاً، وبدل أن يكتبوا كلمة يتيمة لصالح الثورة كونهم تلاميذ غيفارا المزعومين، اكتفوا بملء صفحاتهم على مواقع التواصل بالحكم والأقوال المأثورة والقصص الاجتماعية.
في السنة الثالثة والرابعة في الجامعة أتذكر أنني في ذلك العام سألت زميلي في الغرفة في المدينة الجامعية سؤالاً هاماً: قلت له يا زلمي أسمع في الراديو دائماً كلمة سياسة وكلمة سياسي. شو معناتها، فبدأ الزميل، وكان أشقاؤه وقتها ضباطاً كباراً في الجيش السوري، يشرح لي المعنى، لكنني بصراحة لم أفهم شيئاً. ثم شاءت الأقدار أنني تخرجت من الجامعة، وعندما ذهبت إلى بريطانيا لدراسة الدكتوراه في الأدب الانكليزي عام 1984، كان أمامي اختصاص المسرح السياسي، فاخترت ذلك الاختصاص، مع العلم أنني لا أعرف عن السياسة شيئاً. لكن المضحك في الأمر أنني عندما قابلت البروفسور المشرف على دراستي في جامعة (هل) في بريطانيا، أتذكر أنه اقترح علي أن أدرس التأثير الماركسي على الكتاب المسرحيين البريطانيين في النصف الثاني من القرن العشرين، فشعرت بخوف شديد، وقلت له بسذاجة صارخة: أرجوك يا دكتور: لا أريد أن أقترب من ماركس والماركسية أبداً، فالويل لمن اقترب منهما في سوريا، فلو فعلت ذلك، لذبحوني عندما أعود إلى هناك بعد الدراسة. فتفاجأ الدكتور من هذا الرد الصبياني، لكنه كان ذكياً جداً، فبدأ يستدرجني أسبوعاً بعد أسبوع إلى الفكر الماركسي واليساري شيئاً فشيئاً، فوجدت نفسي بعد فترة غارقاً في البحث والقراءة في الفكر الماركسي واليساري عموماً. وصرت أضحك على أيام حرق الكتب في حمامنا الخارجي، وكيف كنت أرتعب من سماع اسم اليساريين. وبدأت أبحث وأقرأ عن أقصى الأفكار التحررية من أجل أطروحة الدكتوره. ومن شدة شغفي بالموضوع ذهبت إلى أقاصي الفكر اليساري الذي يدعو إلى تحطيم الأساطير والمقدسات الاصطناعية ليكون موضع أطروحتي.
واليوم بعد مرور الأيام اكتشفت أن السياسة مثل المزبلة كلما تعمقت فيها أكثر فاحت منها رائحة أقذر.
المصدر القدس العربي