في الثمانينات الماضية، خرج شاب من مسيحيي الكرك لدراسة اللاهوت في أوروبا، المانيا تحديدا…بعد سنوات مضنية من الدراسة الدينية اتقن فيها خمس لغات، أحب الرجل أن يقود سيارته عائدا إلى الأردن محملا بعشرات الهدايا في سيارته برفقة زوجته.
الرحلة مرّت بسلام، حتى معبر نصيب في القطر العربي السوري. الشاب الذي أضحى رجلا تعوّد كثيرا على أخلاقيات ألمانيا فلم يعرف أن رشوة الضابط على حاجز الحدود هي من بدهيات المعاملة الرسمية في سوريا الأسد.
المهم أن صاحبنا رمى بكلمة في وجه الضابط، قال له وبكل بساطة “مدام هيك تعاملكم شيلوه لشعار أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة” ….
المهم أن صاحبنا تم اعتقاله فورا، ولانهم أصحاب نخوة تركوا زوجته لتعود بالسيارة إلى الأردن لتزفّ الخبر السعيد لأهل زوجها.
بعد سنوات طويلة، تم الإفراج عن أحد أبناء الجيران في حارتنا بالزرقاء، حمل لنا خبرا أن هناك أردني اسمه كذا وكذا مضى له سنوات عجاف داخل سجون القطر الشقيق…
بعد واسطات كبرى، أُفرج عن الخوري المسكين، فاقدا عقله ولغاته الخمس بما في ذلك العربية…غيروا اسمه خلالها إلى محمود.
في خضم الحديث عن الأقليات وحمايتها…
أكرم أبو تميم
………………………………..
حمل حذائه ليضرب الصنم عمره لم يتجاوز 15 عاما، ولكنه كان اشجع من الجميع… الجمهور كان غاضبا وفرحا فقد كسر الخوف… حرية… حرية… حرية… سلمية… حرية… كانوا يهتفون…
الشرطة والامن ابتعدوا تركوهم يصلوا لتمثال الاسد في وسط ساحة “الشيخ ضاهر”… فجأة اخرج مسدسا من خصره وصوب نحو الفتى.. الحذاء لم يلوث الصنم، ولكن دم الطفل لوث الصنم… هكذا بدأت احداث مدينة اللاذقية في آذار، وبدأ مسلسل المظاهرات والقتل…
اغلقت المدينة وانقسمت لأحياء موالية واخرى معارضة وبدأت الشائعات تغزو مواقع التواصل الاجتماعي محرضة على الفتنة الطائفية، حينها قررت تأسيس اول شبكة اعلامية حقيقية في سوريا لتغطي اخبار كل الاحياء في المدينة، وبدأ الاعلام العالمي بالتواصل معي، ومع كل اتصال كنت اتوقع ان الامن ستقتحم مكتبي ويعتقلني، اوصدت بابي الحديد في مكتبي واعطيت احد الاصدقاء عدة هواتف ليعلمهم في حال تم الاعتقال.
فكرة ان تتكلم للإعلام في بلد امني كسوريا هي بمثابة الانتحار، خاصة في مدينة كاللاذقية، اتصلت بكل اصدقائي المثقفين في المدينة وطالبتهم ان يتكلموا ايضا كي لا اكون وحيدا على الشاشات جميعهم رفض ونصحوني بالسكوت…
مضت الليلة الاولى ولم اعتقل كنت بلا طعام لمدة يوم ونصف اليوم، في الساعة الرابعة صباحا اتصل “راديو مونت كارلو” واعلمني اني سأكون على الهواء مباشرة عند الساعة السابعة او السابعة والنصف، لم يكن في مكتبي اي شيء يؤكل سوى السكر، فتناولت ملعقتي سكر قبل الاتصال وبدأت بالحديث لا اذكر كم استغرقت المكالمة ولكن بعد حوالي الربع ساعة سمعت حركة غريبة في الشارع، مددت راسي بحذر… كانوا اثنين احدهم يحمل رشاش ويستند لسيارة “ستيشن سوداء”، كنت متأكد انها سيارة امنية…
سيعتقلوني بالتأكيد… اتصلت مباشرة بصديقي ولكنه لم يرد، فجهزت نفسي ولبست حذائي، اطفأت المكيف واغلقت الانوار… غسلت وجهي.. ثم اسرعت لفتح اقفال ابواب الحديد… كنت لا اريد ان يسبب اعتقالي ضجة في الشارع او حتى في المبنى.
استمريت بالمراقبة من النافذة واصبح الرشاش رشاشين والذين يحملانه يدخنان التبغ، استغربت هدوؤهما، وتوقعت ان امر الاعتقال لم يعطى وعلى الارجح سيزداد عدد العناصر الامنية لتداهم المكتب وتفتشه بغية احداث ضجة في الحي… حينها قررت ان لا انتظرهم واخرج لهم بشكل مباشر على الاقل سيتفاجؤوا، وبما ان امر المداهمة غير مستعجل فهم على الارجح سيتبعوني ويخبروا رؤساؤهم اين سأكون وهي فترة كافية لان ابتعد عن الحي، وبالتالي اجنب اهالي الحي ضجيجا واخفف من كمّ الشائعات التي سيطلقونها حولي….
فتحت الباب راسما ببالي كل الاحتمالات في حال الضرب او اطلقوا النار… الاحتمالات كلها ظهرت امام عيوني وكنت ارسم على وجهي ردود الافعال، تراجع الخوف امام دعسات خطواتي، رغم ان حواسي كلها كانت بحالة استنفار.
سمعت بربرة “صوت حديث خافت” ادركت حينها انهم دخلوا البناية، مكتبي في الطابق الاول، ويعلوه منزل رجل دين مسيحي مهتم بفن الايقونة، واذكر اني عرفت احد الاعلامي عليه كي يقيما سوية ربورتاج تلفازي حول فن الايقونة… حينها شعرت بنوع من الذنب توقعت ان ضجيج الاعتقال وما سيتبعه من مسرحيات امنية سخيفة كالمرور على الجيران والاستفسار منهم نحو شخصي سيسبب خوفا تجاه هذا الانسان المسالم، وبدقيقة واحدة تدفق ببالي صور عدة اسر مجاورة لمكتبي، بعضهم سيصدق تشويه السمعة بحقي، وبعضهم سيدعون التصديق ولكن من المؤكد ان الجميع لن يعترض، فالوسط المسيحي السوري هو وسط متعالي يرفض الفضائح حتى وان كان يمارسها سرا وهو اكثر الاقليات بعدا عن الاجهزة الامنية والمناصب السياسية، لذا هم يبتعدون عن مثيري الشغب السياسي سواء اكان يمثلهم او يعارضهم، مطبقين المثل الشعبي “عند انهيار الامم اخفض راسك” فهم مناصري الطرف الاقوى في العلن وفي الخاص يكونون اكثر المنتقدين له.
لا ادري لماذا فكرت بكل تلك الاشياء في هذه الدقائق السابقة لاعتقالي، فجأة سمعت كلمة “باي… انتبه على حالك”… لعمى هذا الصوت مستحيل ان يكون امن، حتى انه يحمل نوع من النعومة، لم افكر كثيرا بالامر حيث ظهر امامي رجل الدين ووجهه مضطرب ابتسم وقال: “صباح الخير” واخفض راسه باتجاه الدرج…
حينها سألته بصوت واضح “وين رايح ابونا”
رفع راسه من الارض مهموما، بلع ريقه وحرك يده في اشارة لترسيخ فكرة الامر الواقع “رايح على القداس بالكنيسة…” واعاد وجهه نحو الدرج في محاولة لاستكمال خطواته
سالته بعد ان تجاوزني “ليش في رعية لتصلي الها بهي الظروف ابونا!!…”
فبرم جسمه بشكل كامل ولم يرد شفهيا بل رد بتحريك يده معبرا عن فكرة “شو طالع بايدنا”، وبدون ان اساله قال لي “الشباب برا رح يوصلوني”
حينها ادركت ان السيارة الامنية قادمة من اجله وليس من اجلي، تراجعت بحركتي من الدرج نحو المكتب وبسرعة البرق تابعت المشهد من النافذة… لقد طلع معهم… ذهبت السيارة وذهب الرشاشين.
بعد ايام ظهرت موجة مسيرات التأييد للرئيس الاسد وشاهدت كل رجال الدين المسيحيين والمسلمين والعلويين يمسكون يدهم بيد بعض ويهتفون “بالروح بالدم نفديك يا بشار”…
ملاحظة: في الكهنوت المسيحي الارثوذكسي رجل الدين لا يحق له الحديث في السياسة وعمله هو عمل رعوي محض، وغالبية رجال الدين المسيحيين لا يملكون شعبية اجتماعية خاصة في المدن واكبر تأكيد على هذا الامر ترونه عند زيارة الكنائس في اوقات الصلوات حيث عدد المصليين محصور بأصابع اليد، والاستثناء الوحيد نراه يوم الاحد وفي الاعياد حيث تأخذ الصلاة طابع اجتماعي اكثر مما هو طابع ارشادي من قبل رجل الدين للمصلين… لذا رجال الدين الواضحين في هذه الصورة هم يمثلون انفسهم ومجموعة من بسيطة من مريديهم. بينما المختلف الوحيد بينهم في الصورة هو التاجر الذي يتاجر بأثوابهم ليبرر وجوده دوليا.
قصة حقيقية: جزء من رواية “الرحيل” التي اعمل عليها الان
عصام خوري